[أول من يكلمهم الله]
أتدرون من هم أول من يكلمهم الله في هذا الموقف العصيب؟! هذا هو عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء.
أول من ينادى عليه يوم القيامة هو: آدم عليه السلام، ينادي الحق سبحانه على آدم فهو أبو البشر، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم! فيقول آدم: لبيك وسعديك والخير كله في يديك، فيقول الله جل وعلا: أخرج بعث النار من ذريتك، فيقول آدم: وما بعث النار؟ فيقول الله جل وعلا: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد إلى الجنة! -فشق ذلك على أصحاب الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم- فقالوا يا رسول الله! وأينا ذلك الواحد؟! فقال المصطفى: -والحديث في الصحيحين- هنا يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، فترى المرأة التي خرجت إلى أرض المحشر وهي حامل تسقط حملها على الفور من شدة الهول {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:٢]، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أبشروا! فوالذي نفسي بيده! فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم واحد، فكبر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: الله أكبر، الله أكبر، فقال لهم المصطفى صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبر أصحاب النبي، فرد المصطفى وقال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبر أصحاب النبي، فقال المصطفى في الثالثة: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة)، إذاً: أمة النبي صلى الله عليه وسلم تشكل نصف أهل الجنة، مع أنها الأمة الموفية سبعين أمة، كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم موفون سبعين أمة، أنتم أكرمها وأفضلها عند الله جل وعلا).
قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً أمة الحبيب المصطفى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:١١٠].
اللهم لك الحمد يا من خلقتنا موحدين! وجعلتنا من أمة سيد النبيين، اللهم كما اخترتنا لتوحيدك وجعلتنا من أتباع سيد رسلك، فثبتنا على دينه، وتوفنا عليه، واحشرنا تحت لوائه برحمتك يا أرحم الراحمين! ولله در القائل: ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيا وهذا فضل من الله، فغيرك -أخي في الله- ولد في بيت يهودي، وغيرك ولد في بيت نصراني، وغيرك ولد في بيت علماني، وفي بيت ملحد، وفي بيت فسق ومعصية، ونحن بفضل الله وكرمه وحده، قد ولدنا ونشأنا في بيوت توحد الله فوحدناه، وتؤمن برسول الله فآمنا به واتبعناه، فهذا فضل الله سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:١٧] فالفضل لله ابتداءً وانتهاءً.
فاللهم كما خلقتنا موحدين، وجعلتنا من أمة سيد النبيين وفقنا للسير على دربه، واحشرنا تحت لوائه برحمتك يا أرحم الراحمين! ثم بعد ذلك ينادي رب العزة تبارك وتعالى نوحاً: يا نوح! فيقول: لبيك وسعديك، فيقول الله سبحانه: هل بلغت قومك؟! -سؤال خطير- فيقول: نعم يا رب! -والله أعلم- فيقول الحق جل جلاله: يا قوم نوح هل بلغكم نوح؟! فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، وما رأينا نوحاً قط! وهو الذي مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله في الليل والنهار، في السر والعلانية، ما ترك أسلوباً من أساليب الدعوة قد أتاحه الله له في حينه وزمانه إلا وقد سلك دربه؛ ليدعو الناس إلى دين الله جل وعلا، ومع ذلك ينكر هؤلاء المجرمون! ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، وهنا يقول ربنا لنوح: من يشهد لك يا نوح أنك قد بلغت هؤلاء؟! فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته! فهل رأى محمد نوحاً؟ وهل رأى موحد نوحاً؟ لا والله، يقول المصطفى: (فتدعون فتشهدون لنوح أنه قد بلغ قومه، ثم أدعى فأشهد عليكم)، وفي لفظ ابن ماجة بسند صححه شيخنا الألباني، يقول المصطفى: (فيقول الله لأمتي: من الذي أخبركم أن نوحاً قد بلغ قومه؟! فتقول الأمة الميمونة لربها جل وعلا: جاءنا نبينا محمد فأخبرنا أن الرسل جميعاً قد بلَّغوا قومهم فصدقناه، يقول المصطفى: فذلك قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:١٤٣]).
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، واحشرنا تحت لوائه، برحمتك يا أرحم الراحمين! ثم يدعى عيسى عليه السلام ويقال له: يا عيسى! {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:١١٦].
لماذا خص الله عيسى من بين سائر الرسل بهذا السؤال؟!! لأنه ما من رسول بعث في قومه إلا وقد آمن به من آمن من قومه، وكفر من كفر، إلا قوم عيسى، فقوم عيسى منهم من قال: إن عيسى هو الله!! ومنهم من قال: إن عيسى هو ابن الله!! ومنهم من جعل عيسى وأمه إلهين من دون الله!! وقد قال بهذا المعتقد الفاسد جمع من طوائف النصارى كالملكية واليعقوبية والنسطورية والمريمية أو المريمانية، وهنا يوجه الله هذا السؤال لعيسى: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة:١١٦] ينزه الله جل جلاله (قَالَ سُبْحَانَكَ)، وهل يقول عاقل: إن هناك إله يأكل؟! إله يشرب؟! إله يتزوج؟! إله يقضي حاجته؟!! ولله در ابن القيم حين قال: أعباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه إذا مات الإله بصنع قوم أماتوه فهل هذا إله ويا عجباً لقبر ضم رباً وأعجب منه بطناً قد حواه أقام هناك تسعاً من شهور لدى الظلمات من حيض غذاه وشق الفرج مولوداً صغيراً ضعيفاً فاتحاً للثدي فاه ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك فهل هذا إله تعالى الله عن إفك النصارى سيسأل كلهم عما افتراه {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة:١١٦].
انظر إلى كمال العبودية لله: {إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:١١٦ - ١١٧] ثم يقول عيسى عليه السلام لربه الرحمن: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:١١٨].
فيرد الحق جل وعلا على عبده المصطفى ونبيه المجتبى عيسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة:١١٩].
ثم يدعى جميع الرسل، وهل يسأل الرسل وهم صفوة الخلق، والمؤيدون بوحي السماء؟! اسمع لله جل وعلا وهو يقول: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:١٠٩].
واسمع لله جل وعلا وهو يقول: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:٦].
إذاً: لا يسأل الناس فحسب، بل يسأل الرسل أيضاً، الرسل الذين تفرقوا في الأزمان والأوطان، ولكنهم جميعاً يحملون دعوة واحدة، ومنهجاً وحداً، يجمعهم الله سبحانه وتعالى يوم القيامة ويسألهم جميعاً، تستشعر ذل العبودية، بل وجلال العبودية في جواب الرسل على الله جل جلاله وهم يقولون: {مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:١٠٩].
أيها الأخيار! يسأل الرسل، بل والملائكة، والشهداء!! وهؤلاء هم صفوة الخلق: الملائكة والرسل والأنبياء والشهداء، فهل نترك بعد هؤلاء؟! قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر:٦٨ - ٧٠].
وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.