[وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟]
ثالثاً: (عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟) ستسأل عن مالك، والمال نعمة من أعظم النعم، المال زينة الحياة الدنيا مع الأولاد، قال جل وعلا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:٤٦]، ولاحظ أن الله قدم في هذه الآية المال على الأولاد فقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:٤٦]، المال زينة، والمال نعمة عظيمة، ولكن لا يعرف قدر هذه النعمة إلا من عرف الغاية من المال، فما أكرمه من نعمة إن حركته أيد الصالحين والشرفاء، المال نعمة لا يعرف قدرها إلا صالح تقي عرف الغاية من المال، وعرف وظيفة المال، وعرف أن المال ظل زائل، وعرف أن المال عارية مسترجعة، المال نعمة منَّ الله بها عليك، وزينة زينك الله بها، ولكن انتبه! سوف تسأل عن هذا المال كله من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقت هذا المال؟ سؤالان يملآن القلب بالخوف والوجل، ويجعلان العبد يسأل نفسه ألف مرة قبل أن يحصل جنيهاً واحداً، من أين ستحصل هذا المال؟ من الربا؟ من الرشوة؟ من الحرام؟ من أكل أموال الناس بالباطل؟ من أين ستحصل هذا المال؟ يا من تتاجر في المخدرات؛ لتحرق قلوب أبنائنا وبناتنا، ولا هم لك إلا أن تجمع المال! يا من تتاجر في الربا! يا من تأكل أموال اليتامى! يا من تأكل من الرشاوي! يا من تأكل أموال الناس بالباطل! تدبر الآن وحاسب نفسك، وقف مع نفسك وقفة صدق الآن، وطَهِّر مالك كله قبل أن تُسأل بين يدي الله -الذى يعلم السر وأخفى- عن كل جنيه من أين جئت به؟ من أين لك هذا المال؟ من أين لك هذا الرزق؟.
فالمال نعمة إذا حركته أيدي الصالحين والشرفاء، المال منحة لمؤمن تقي عرف الغاية منه، وعرف الوظيفة لهذا المال، لذا يقول سيد الرجال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لا حسد إلا في اثنتين -والحسد هنا بمعنى: الغبطة- رجل آتاه الله القرآن فهو به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) ينفق المال ويعلم أن المال رزق الله، وأن المال ظل زائل وعارية مسترجعة، لذا تدبر معي -أخي الكريم- قول الحبيب صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه أحمد والترمذي وصححه شيخنا الألباني من حديث أبي كبشة الأنماري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، وما ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً -اللهم ارزقنا المال والعلم- فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه -أي: في المال والعلم-حقاً، فهذا بأفضل المنازل عند الله جل وعلا، وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان -أي: من الخيرات والمشروعات التي تنفع الأمة- يقول النبي: فهو بنيته فأجرهما سواء).
أيها الفقير! يا منّ من الله عليك بالعلم والفهم والعقل! صحح النية، وسل الله بصدق أن لو رزقك مالاً لعملت كذا وكذا وكذا من أعمال البر والخير، يقول المصطفى: فأنت بصدق نيتك كمن عمل (فهو بنيته فأجرهما سواء) (وعبد -هذا هو العبد الثالث- رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، فهو يخبط في ماله) ينفق ماله في اللهو والعبث والباطل، (فهو يخبط في ماله، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل).
(وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً) ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان -أي: من اللهو والمعاصي، لسافرت إلى بانكوك ومدريد، وانشغلت باللهو والملذات والشهوات والمعاصي، يقول المصطفى: (فهو بنيته فوزرهما سواء).
المال لا يصبح نعمة إلا إذا كان في يد صالحة تعرف الغاية منه، لذا يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام -ليبين لنا أن المال هو ما قدمت لدين الله، هو ما بذلت لله جل وعلا، وأن المال الذي ستتركه ليس مالاً لك وإنما هو مال ورثتك -كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! ما منا أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه.
قال: فإن ماله ما قدم ومال ورثته ما أخر) ويقول المصطفى كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير: (يقول ابن آدم: مالي مالي -الأموال والعمارات والسيارات والدولارات، وترى الإنسان منتفخاً بماله إن أودع في البنك مبلغاً من المال -وليس لك من مالك إلا ما أنفقت فأبقيت)، ولذا وورد في صحيح سنن الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر عائشة بذبح الشاة، وأمرها بأن تتصدق بها، فتصدقت عائشة بالشاة كلها إلا الذراع، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما بقي من الشاة يا عائشة؟ قالت: ما بقي منها شيء إلا الذراع، فقال المصطفى: بل بقيت كلها إلا الذراع)، الذي تصدقت به هو الذي سيبقى لنا.
فالمال -يا إخوة- ظل زائل، وعارية مسترجعة، ستسأل عنه بين يدي الله جل وعلا، ستسأل عن هذا المال كله: من أين اكتسبته؟ وفيما أنفقته؟ واسمع لحبيبك المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول -كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -: (أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:٥١]، وقال تعالى للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:١٧٢]، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل، يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟) أنى يستجاب لمن أكل الحرام؟ أنى يستجاب لمن شرب الحرام؟ أنى يستجاب لمن غذى أولاده بالحرام؟ إننا نرى الآن تهاوناً مروعاً في الأكل الطيب الحلال، فترى الرجل لا هم له إلا أن يجمع المال من أي سبيل كان، حتى ولو كان من الحرام، حتى ولو كان من الربا، حتى ولو كان من أموال الناس بالباطل، المهم أن يجمع المال وأن يكنزه، ومع ذلك فو الله لن يخرج من الدنيا بدرهم أو دينار أو دولار.
النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، ومنها: عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم انفقه؟).
وأرجئ السؤال الرابع إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.