للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اصطفاء الله لمريم عليها السلام]

أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز.

أيها الحبيب الكريم! لأول مرة في تاريخ البشرية الطويل ينسب نبي إلى أمه فيقال له: عيسى بن مريم، فـ مريم هي الأنثى الوحيدة في الوجود كله التي اختصها الله من بين النساء قاطبة؛ ليودعها سره الأكبر، في أصفى حمل وأعجز ميلاد، ومريم هي الفتاة العذراء التقية النقية التي اصطفاها الله جل وعلا من بين نساء العالمين، فنفخ فيها من روحه، ومنحها هذه المكانة الرقيقة الرقراقة بين أمهات الدنيا، أمها حنة بنت فاقود، وصلت سن اليأس، فتمنت على الله أن يرزقها الولد، لأنها تعلم أن الله على كل شيء قدير، فاستجاب الله دعاءها، وتحرك الحمل في بطنها، فأرادت أن تشكر الله على هذه النعمة، فقالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:٣٥]، نذرت ما في بطنها لله جل وعلا، لخدمة بيت المقدس؛ جزاء ما رزقها الله تبارك وتعالى هذه النعمة، بعدما وصلت سن اليأس.

ووضعت هذه البنت الجميلة التقية الطيبة، فنظرت إليها حزينة، وقالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ} [آل عمران:٣٦]، فهو الذي رزق وهو الذي قدر، قال تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران:٣٦] أي: الطاهرة: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:٣٦ - ٣٧].

ثم اختلف الناس في بيت المقدس، من الذي سيكفل مريم؟ من الذي سيتولى رعايتها وتربيتها؟ فقالوا: نضرب القرعة فيما بيننا، ننطلق إلى النهر، وكل واحد منا يلقي قلمه، فأيُّ قلم يعاكس التيار -يمشي في عكس تيار الماء- فصاحب هذا القلم هو الذي سيكفل مريم، فانطلقوا جميعاً وكلٌ ألقى بقلمه، وانجرفت الأقلام كلها مع تيار الماء، إلا قلماً واحداً مشى في عكس اتجاه التيار، فأخرجوا هذا القلم فوجدوه قلم زكريا عليه السلام: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران:٣٧].

وتعجب زكريا عليه السلام من هذا الطهر والتعبد والزهد والعفاف الذي تحلت به مريم البتول، ومن تلك المكانة العالية التي عند الله عز وجل، فكلما دخل عليها زكريا وجد عندها رزقاً، قال أهل التفسير: وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:٣٧].

وهكذا أيها الأخيار الكرام! وضع الله مريم في بستان الورع، بين أزهار التقى والعفاف والصلاح والنقاء، وترعرعت هذه الزهرة والنبتة الطيبة، ونشأت مريم في هذا المكان وفي هذا الجو الإيماني الطاهر العفيف، فاصطفاها الله وبشرها بهذه البشارة: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:٤٢ - ٤٤] وظلت مريم ساجدة، وظلت مريم راكعة حتى أراد الله جل وعلا أن يمنحها تلك المكانة الرفيعة بين أمهات الدنيا، فنفخ فيها جل وعلا من روحه؛ لتنجب عيسى عليه السلام، فبين الله للخلق عظيم قدرته، فكما أنه خلق آدم من غير أب ومن غير أم، خلق عيسى من أم دون أب، وخلق سائر الخلق من أم وأب؛ وليعلم الناس جميعاً أن الله على كل شيء قدير.

<<  <  ج: ص:  >  >>