للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[العرض على الله وأخذ الكتب]

أيها الموحدون! هذه هي القواعد التي يحاسب الله جل وعلا عباده وفقاً لها يوم القيامة، وبها يكون الحساب، وهذا هو عنصرنا الثاني: العرض على الله وأَخْذِ الكُتُب.

قال تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:٢١ - ٢٩].

وفى الصحيحين من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من نوقش الحساب يوم القيامة عُذِّبْ، قالت عائشة: يا رسول الله! أو ليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:٧ - ٨]؟! فقال المصطفى: إنما ذلك العرض، وليس الحساب يا عائشة، فمن نوقش الحساب يوم القيامة عذب).

سينادى عليك ليكلمك الله، كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه تُرجُمَان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قَدَّمَ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).

تنادي الملائكة: أين فلان بن فلان؟!! فإذا تَيَقّنْتَ أنك أنت المطلوب، وقرع النداء قلبك؛ فاصفر لونك، وتغير وجهك، وطار قلبك، وقد وُكّلَت الملائكة بأخذك أمام الخلق أجمعين، على رءوس الأشهاد، ويرفع الخلائق جميعاً أبصارهم إليك وأنت في طريقك للوقوف بين يدي الملك تتخطى الصفوف! أسألك بالله أن تتصور هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلوب! تتخطى الصفوف: صفوف الملائكة صفوف الجن صفوف الإنس في أرض المحشر؛ لترى نفسك واقفاً بين يدي الحق جل جلاله؛ ليكلمك الله، ولتعطى صحيفتك! هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، ولا مخبأة أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها! وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها! فيا حسرة قلبك -وقتها- على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك! فإن كان العبد من أهل السعادة -اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك- وممن رضي الله عنهم في الدنيا والآخرة، أعطاه الله كتابه بيمينه، وأظهر له في ظاهر الكتاب الحسنات، وفي باطنه السيئات، فيأمر العبد أن يبدأ، فيقرأ السيئات؛ فيصفر لونه، ويتغير وجهه ويخشى العذاب والعياذ بالله! فإذا ما أنهى قراءة السيئات وجد في آخر الكتاب: هذه سيئاتك وقد غفرتها لك؛ فيتهلل وجهه، ويسعد سعادة لا يشقى ولن يشقى بعدها أبداً، ويواصل القراءة حتى إذا ما وصل إلى آخر الكتاب قرأ الحسنات؛ فازداد وجهه إشراقاً، وازداد فرحاً وسروراً، وقال له الملك جل جلاله: انطلق إلى أصحابك وإخوانك -أي: من أهل التوحيد والإيمان- فبشرهم أن لهم مثلما رأيت، فينطلق وكتابه بيمينه، والنور يشرق من وجهه وأعضائه، ويقول لأصحابه وخلانه: ألا تعرفونني؟! فيقولون: من أنت لقد غمرتك كرامة الله؟!! فيقول: أنا فلان بن فلان! انظروا هذا كتابي بيميني! اقرءوا كتابيه! شاركوني السعادة والفرحة، انظروا: هذا توحيدي، وهذه صلاتي، وهذه زكاتي، وهذا حجي، وهذا بري بوالدي، وهذه صدقتي، وهذا إحساني للجيران، وهذا ولائي وبرائي، وهذا بغضي لأعداء الله، وهذه أعمالي، وهذه دعوتي، وهذا أمري بالمعروف، وهذا نهيي عن المنكر، وهذا بعدي عن الغيبة والنميمة، وهذا بعدي عن ظلم العباد: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:١٩ - ٢٤].

وإن كانت الأخرى أعاذنا الله وإياكم من الأخرى، إذا كان العبد من أهل الشقاوة وممن غضب الله عليهم في الدنيا والآخرة، ينادى عليه: أين فلان بن فلان؟!! وسبحان من لا تختلظ عليه الأصوات، ولا تشتبه عليه اللغات، ولا تشتبه عليه الأسماء والصفات! أين فلان بن فلان؟! ماذا تريدون يا ملائكة الله؟! هلم إلى العرض على الله جل وعلا! فيتخطى الصفوف فيرى نفسه بين يدي الله، فيعطى كتابه بشماله أو من وراء ظهره، فيقرأ فيسود وجهه، ثم يكسى من سرابيل القطران! ويقال له: انطلق إلى من هم على شاكلتك فبشرهم أن لهم مثلما رأيت، فينطلق في أرض المحشر وقد اسود وجهه، وعلاه الخزي والذل والعار، وكتابه بشماله من وراء ظهره! فينطلق فيقول لخلانه ومن هم على شاكلته: ألا تعرفونني؟! فيقولون: لا، إلا أننا نرى ما بك من الخزي والذل فمن أنت؟!! فيقول: أنا فلان بن فلان، وهذا كتابي بشمالي، ولكل واحد منكم مثل هذا! ويصرخ في أرض المحشر: لقد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً! يصرخ بأعلى صوته ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:٢٥ - ٣٧].

ولله در القائل: مثل وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تزفر من غيض ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كان فلما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى في النار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

<<  <  ج: ص:  >  >>