للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وزن الأعمال]

اختلف أهل العلم في الذي يوزن على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الذي يوزن في الميزان يوم القيامة هو الأعمال ذاتها، أي: أعمال العبد من صلاة وصيام وزكاة وحج وصدقة وبر وعمرة وغير ذلك.

فرد بعض المعكرين المتعنتين وقالوا: هذه الأعمال أعراض لا أجسام؛ والأعراض لا توزن ولا توضع في الميزان، فكيف توزن الصلاة وهى ليست جسماً؟! وكيف توزن الزكاة؟! وكيف يوزن الحج؟! وكيف توزن الصدقة؟! وكيف يوزن بر الوالدين؟! فهذه الأعمال أعراض لا أجسام، والأعراض لا توزن في الميزان، فكيف تقولون: بأن الأعمال هي التي توزن يوم القيامة؟!

و

الجواب

أن الله جل وعلا يوم القيامة يحول الأعراض إلى أجسام توضع في الميزان، فيخف الميزان ويثقل بحسب الحسنات والسيئات، والأدلة على ذلك من السنة الصحيحة كثيرة: روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).

فهذه كلمة يثقل الله بها الميزان، وأما كيف؟! فنقول: يحول الله الأعراض إلى أجسام، وتوضع في الميزان، فيثقل الميزان ويخف بحسب الحسنات والسيئات.

وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وصححه شيخنا الألباني في مشكاة المصابيح من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق).

فحسن الخلق أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة.

وأخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن القرآن الكريم يأتي يوم القيامة يقف أمام العبد بين يدي الله جل وعلا على هيئة غمامة، أو سحابة أو طير.

اللهم ارزقنا العمل بالقرآن، ورد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، فإننا نرى الآن أمة القرآن قد هجرت القرآن! والهجر للقرآن أنواع: هجر التلاوة، وهجر التدبر، وهجر العمل بأحكام القرآن، وهجر التداوي بالقرآن، هجرت الأمة القرآن، وصدق فيها قول الله جل وعلا: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:٣٠]، وما أشقى من تغافل عن دائه، ولم يسع في دوائه، فظل في ضنكه وشقائه! فلا سعادة للأمة ولا ريادة إلا إذا عادت من جديد إلى أصل عزها ونبع شرفها ومعين كرامتها وبقائها، ألا وهو: كتاب ربها مع سنة الحبيب نبيها.

اللهم رد الأمة إلى القرآن والسنة رداً جميلاً برحمتك يا أرحم الراحمين! يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وسورة آل عمران كأنهما غمامتان سوداوان بينهما شرْق أو شَرَق -شرق بتسكين الراء أو بفتح الراء هو: الضوء والنور، والتسكين أشهر وأبلغ- أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما) أي: بين يدي الله جل وعلا.

فكل هذه أدلة من السنة الصحيحة تدل على أن الأعراض تتحول يوم القيامة إلى أجسام، ولما لم نستطع أن نعي كل هذه الحقائق أردنا أن نحكم قوانين الآخرة الغيبية بقوانين الدنيا الحسية فعجزنا.

فلا تعطل ولا تكيف ولا تمثل.

ولا يستطيع أحد منا الآن أن يعاند أو أن يكابر أو أن يمتنع عن الاعتراف بعالم يعيش بيننا ألا وهو عالم النمل مثلاً، بل ولا يستطيع أحد منا أن ينكر أن النمل يتكلم؛ بدليل أن الله لما فك رموز لغة النمل لسليمان عليه السلام فهم سليمان لغة النمل، وتجاوب مع النمل، كما قال عز وجل: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:١٨ - ١٩].

إذاً: لا يستطيع أحد أن ينكر وجود عالم النمل، بل لا يستطيع أحد أن ينكر أن النمل يتكلم ويتحدث ويتخاطب، ومع ذلك ما رأينا واحداً منا قد جاء بمكبرات صوت دقيقة جداً وقربها لمجموعة نمل ليسمع كلامها، مع أنه يعلم أن النمل يتكلم؛ لأنه ما أعطى لعقله العنان في أن يدرك كيفية لغة النمل؛ لأن الله ما فك له رموز هذه اللغة.

فإذاً: هو يستكثر على عقله أن يدرك كيفية لغة هذا النمل، والنمل خلق من خلق الله، فكيف لعقله أن يدرك ذات الله جل وعلا؟! وكيف له أن يدرك الذات الإلهية؟! فلا تكيف ولا تعطل، ولا تمثل ولا تشبه؛ فعالم الآخرة ليس كعالم الدنيا، ومن الظلم أن نحكم عالم الآخرة الغيبي بعالم الدنيا وقوانينه وهو عالم حسي، فالله سبحانه بقدرته يحول الأعراض إلى أجسام توضع في الميزان، فيثقل الميزان ويخف بحسب الحسنات والسيئات، بل لقد أخبرنا الصادق أيضاً: أن العمل يأتي لصاحبه في القبر على هيئة رجل.

وقد جاء بهذا حديث رواه أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وغيرهم، وصححه الإمام ابن القيم، وأطال النفس في الرد على من أعل الحديث، وصحح الحديث الألباني من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر العبد المؤمن إذا وضع في قبره، فقال: ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟! فيقول: ربي الله، فيقولان: ما دينك؟! فيقول: الإسلام، فيقولان له: من نبيك أو من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟! فيقول: هو محمد صلى الله عليه وسلم، فيقولان: ما علمك؟! فيقول: قرأت كتاب الله؛ وآمنت به وصدقت، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي؛ فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد البصر).

وأرجو ألا يشوش علينا كلام العلمانيين المجرمين ممن يريدون أن يجعلوا من سلطان العقل والمادة قانوناً يحكمونه في صريح القرآن وصحيح السنة؛ فإننا نشهد الآن نبتة سوء ينكر أصحابها عذاب القبر.

وإن غداً لناظره قريب.

فهذا كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، يقول عليه الصلاة والسلام: (ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول الميت له: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول له: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، وأنا عملك الصالح) العمل يكلم صاحبه في القبر بقوله: (وأنا عملك الصالح).

وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم عن الكافر: (ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟! فيقول: هاه هاه، لا أدرى، فيقولان: من نبيك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدرى، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدرى، فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي، فافرشوا له فراشاً من نار، وألبسوه لباساً من نار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من روحها وسمومها، ثم يضيق عليه قبره فتختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل أسود الوجه، قبيح المنظر، منتن الريح، فيقول: من أنت؟ فوجهك الذي يأتي بشر، فيقول: أبشر بالذي يسوءك؛ أنا عملك الخبيث).

بل لقد أخبر الصادق أن الموت نفسه يأتي يوم القيامة على هيئة كبش أملح، ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى يوم القيامة بالموت على هيئة كبش أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون، فيقول لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم نعرفه؛ إنه الموت، وكلهم قد رآه.

فينادي منادٍ: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم نعرفه؛ إنه الموت.

فيؤمر بذبحه بين الجنة والنار، وينادي منادٍ ويقول: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت).

إذاً: يا إخوة! ثبت بالأدلة الصحيحة التي ذكرت الآن: أن الأعراض تتحول إلى أجسام، وتوضع في الميزان يوم القيامة، ويثقل الميزان ويخف بحسب الحسنات والسيئات، هذه أدلة أصحاب القول الأول الذين قالوا: إن الأعمال هي التي توزن في الميزان يوم القيامة.

<<  <  ج: ص:  >  >>