أيها الموحدون! تدبروا معي هذا المشهد الذي يخلع القلب، تدبروا الحديث، عيشوا مع هذا الحديث الذي يكاد يخلع القلب إن تدبرناه ووعيناه.
تصور معي هذا المشهد في أرض المحشر، ها هو الظالم في أرض المحشر يقف بين يدي الله في ذل وخشوع وانكسار، لا يرتد إليه طرفه، شخص ببصره، لا يلتفت أعلى ولا أسفل ولا يمنة ولا يسرة، لا يرتد إليه طرفه، بل وقفز قلبه من جوفه! الشمس فوق الرءوس، تكاد حرارتها تصهر العظام، والزحام يكاد يخنق الأنفاس، والعرق يكاد يغرق الناس، وجيء بجهنم ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها! تزفر وتزمجر غضباً لغضب الجبار جل وعلا، فإن الله قد غضب في هذا اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، في هذه اللحظات ومع هذا الهول يرى الظالم نفسه وقد أحيط بمجموعة من الناس، من أنتم؟! من هؤلاء؟! هؤلاء هم الذين ظلمهم في الدنيا! ظلم من ظلم ونسي! فيتعلق المظلومون بالظالم، يتعلق كل من ظلمته بك يوم القيامة، يجرونه جراً ليوقفوه بين يدي الله جل وعلا، هذا يتعلق به من يده، وهذا يجره من ظهره، وهذا يجره من لحيته، يتعلقون به ليوقفوه بين يدي الملك جل جلاله، فإذا ما وقف بين يدي الله تبارك وتعالى، وأذن الله لدواوين المظالم أن تنصب، وللقصاص أن يبدأ، يقول هذا: يا رب! هذا شتمني، والآخر يقول: يا رب! ظلمني، والآخر يقول: يا رب! اغتابني، والآخر يقول: يا رب! غشني في البيع والشراء، والآخر يقول: يا رب! وجدني مظلوماً وكان قادراً على دفع الظلم فجامل ونافق الظالم وتركني، والآخر يقول: يا رب! جاورني فأساء جواري! سترى كل من عاملته في الدنيا -نسيته أو تذكرته- قد تعلق بك بين يدي الله جل وعلا، كل يطالب بحقه، وأنت واقف يا مسكين! ما أشد حسرتك في هذه اللحظات، وأنت واقف على بساط العدل بين يدي رب الأرض والسموات، إذا شوفهت بخطاب السيئات، وأنت مفلس عاجز فقير مهين لا تملك درهماً ولا ديناراً، لا تستطيع أن ترد حقاً ولا تملك أن تبدي عذراً، فيقال: خذوا من حسناته إلى من ظلمهم في الدنيا، تنظر إلى صحيفتك التي بين يديك فتراها قد خلت من حسنات تعبت في تحصيلها طوال عمرك، فتصرخ وتقول: أين حسناتي؟! أين صلاتي؟! أين زكاتي؟! أين دعوتي؟! أين علمي؟! أين قرآني؟! أين بري؟! أين عملي الصالح؟! أين طاعاتي؟! فيقال: نقلت إلى صحائف خصومك الذين ظلمتهم في الدنيا! وقد تفنى حسناتك ويبقى أهل الحقوق ينادون الله جل وعلا أن يعطيهم حقهم من الظالم، فيأمر الحق سبحانه أن يؤخذ من سيئات من ظلمتهم في دنياك؛ لتطرح عليك، فتصرخ وتقول: يا رب! هذه سيئات والله ما قاربتها والله ما عملتها فيقال لك: نعم، إنها سيئات من ظلمتهم في الدنيا، فتمد عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك، لعلك تنجو في هذه اللحظات، ولست بناجٍ؛ لأن الله قد حرم الظلم على نفسه، وحرم الظلم على العباد، فيقرع النداء سمعك ويخلع قلبك، قال الله جل وعلا:{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[إبراهيم:٤٢ - ٥٢].
أيها الظالم! أيها اللاهي! أيها الساهي! مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور إذا كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا البحار تفجرت نيرانها فرأيتها مثل الجحيم تفور وإذا العشارتعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين تسير وإذا الجليل طوى السما بيمينه طي السجل كتابه المنشور وإذا الصحائف نشرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور وإذا الوليد بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ولها على أهل الذنوب زفير وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتى على طول البلاء صبور أيها المسلمون! اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، فسوف يقتص الملك العدل العليم الخبير للمظلومين، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، وإنما أخذ من الحسنات ورد من السيئات.
فيا أيهاالمظلوم صبراً لا تهن إن عين الله يقظى لا تنام نم قرير العين واهنأ خاطراً فعدل الله دائم بين الأنام