[الحكمة من نزول عيسى عليه السلام]
ثم ينزل الله عز وجل عيسى بعد ذلك؛ لحكم عديدة منها: أن الله تبارك وتعالى سينزل عيسى عليه السلام؛ ليكذب اليهود الذين زعموا أنهم قتلوه، وليكذب النصارى الذين جهلوا هذه الحقيقة، وليبين للناس جميعاً أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأن الموحدين معه من أمته أولى الناس بعيسى؛ لأنه سيحكم العالم كله بكتاب الله وبشريعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:١٥٩]، روى ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس قال: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي: قبل موت عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وسيكون موته في الأرض.
وقد يقول قائل: فما قولك إذاً في قول الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران:٥٥]؟! والجواب كما قال جمهور المفسرين: إن الوفاة في الآية معناها الوفاة الصغرى وهي النوم، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:٦٠].
وكما في قول الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:٤٢] وكما في قول المصطفى إذا استيقظ من نومه: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) فقوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي: ألقى الله عليه سِنَةً من النوم، وهذه هي الوفاة الصغرى باتفاق، ثم رفعه الله عز وجل، ثم ينزله الله تبارك وتعالى بعد ذلك في الوقت الذي يشاء.
قال ابن عباس: فانقسم الناس في رفع عيسى إلى ثلاث فرق: فقالت فرقة: كان فينا الله -والعياذ بالله- ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء هم اليعقوبية، وهي فرقة من فرق النصارى.
وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء هم النسطورية.
وقالت فرقة ثالثة: كان فينا عبد الله ورسوله، ما شاء الله له أن يكون ثم رفعه الله إليه، ثم ينزله إذا شاء، وهؤلاء هم المسلمون.
قال ابن عباس: فتظاهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المسلمة، فقتلوا الفرقة المسلمة، ثم طمس الإسلام ولم يظهره الله إلا ببعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فبين لنا الحق في هذه القضية، وقرأ علينا قول ربنا جل وعلا: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:١٥٧] إلى قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:١٥٨] إلى قوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء:١٥٩] أي: ليؤمنن بعيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:١٥٩].
والله أسأل أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.