للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالثَّانِي مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ التَّعْدِيَةُ فَإِنَّ حُكْمَ التَّعْلِيلِ التَّعْدِيَةُ عِنْدَنَا فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ بِدُونِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّعْدِيَةِ حَتَّى جَوَّزَ التَّعْلِيلَ بِالثَّمَنِيَّةِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَجِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْإِيجَابُ مِثْلَ سَائِرِ الْحُجَجِ أَلَا يُرَى أَنَّ دَلَالَةَ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً لَا تَقْتَضِي تَعْدِيَةً بَلْ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِمَعْنًى فِي الْوَصْفِ وَوَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ دَلِيلَ الشَّرْعِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُوجِبَ عِلْمًا أَوْ عَمَلًا

ــ

[كشف الأسرار]

بِالتَّعْلِيلِ إلَى غَيْرِهِ بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وَالْإِطْعَامُ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ لَازِمُهُ طَعِمَ، فَحَقِيقَةُ جَعْلِ الْغَيْرِ طَاعِمًا، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالتَّمْكِينِ مِنْ الطَّاعِمِ فَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ ثُمَّ يَصِحُّ التَّمْلِيكُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمَنْصُوصِ فِيهِ وَزِيَادَةً عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْوُقُوفِ عَلَى أَحْكَامِ النَّظْمِ وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فِي الْحَقِيقَةِ فَاسْمٌ لِمَا يُلْبَسُ أَيْ لِلْمَلْبُوسِ، وَهُوَ الثَّوْبُ لَا لِمَنَافِعِ اللِّبَاسِ، وَفِعْلُ اللُّبْسِ وَعَيْنُ الْمَلْبُوسِ لَا يَصِيرُ كَفَّارَةً إلَّا بِالتَّمْلِيكِ؛ فَلِذَلِكَ شُرِطَ فِيهَا التَّمْلِيكُ فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَعْنِي لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: شُرِطَ فِي الْكِسْوَةِ فَيُشْتَرَطُ فِي الْإِطْعَامِ قِيَاسًا وَلَا أَنْ يُقَالَ: حَصَلَ الْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْإِبَاحَةِ فِي الْإِطْعَامِ فَيَحْصُلُ بِهَا فِي الْكِسْوَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ اسْمٌ لُغَوِيٌّ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي مَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ اسْمِ الزِّنَا لِلِّوَاطَةِ بِأَنْ يُقَالَ: سُمِّيَ الزِّنَا زِنًا؛ لِأَنَّهُ إيلَاجٌ فِي فَرْجٍ بِطَرِيقِ الْحُرْمَةِ، وَفِي اللِّوَاطَةِ هَذَا الْمَعْنَى فَيَثْبُتُ فِيهَا اسْمُ الزِّنَا فَيَدْخُلُ اللَّائِطُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: ٢] الْآيَةَ وَاسْمُ الْخَمْرِ لِسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ يَعْنِي الْمُسْكِرَةَ بِأَنْ يُقَالَ: سُمِّيَ الْخَمْرُ خَمْرًا؛ لِأَنَّهَا تُخَمِّرُ الْعَقْلَ فَيُسَمَّى سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ خَمْرًا لِتَحَقُّقِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ قِيَاسًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا» فَيُحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهَا كَالْخَمْرِ.

وَاسْمُ السَّارِقِ لِلنَّبَّاشِ بِأَنْ يُقَالَ: سُمِّيَ السَّارِقُ سَارِقًا؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مَالَ الْغَيْرِ فِي خُفْيَةٍ؛ وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى الْغَاصِبُ بِهِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي النَّبَّاشِ فَيَثْبُتُ لَهُ اسْمُ السَّارِقِ قِيَاسًا لِيَدْخُلَ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: ٣٨] الْآيَةَ بَاطِلٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ تَعْدِيَةَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَهَذِهِ أَسْمَاءٌ لُغَوِيَّةٌ فَلَا يَجْرِي فِيهَا الْقِيَاسُ.

قَوْلُهُ: (وَالثَّانِي مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ) الَّتِي تَضَمَّنَهَا الشَّرْطُ الثَّالِثُ التَّعْدِيَةُ فَإِنَّ حُكْمَ التَّعْلِيلِ التَّعْدِيَةُ عِنْدَنَا أَيْ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ مِنْ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ بِحَيْثُ يَبْطُلُ التَّعْلِيلُ دُونَهُ أَيْ دُونَ هَذَا الْحُكْمِ، وَهُوَ التَّعْدِيَةُ يَعْنِي لَيْسَ لِلتَّعْلِيلِ حُكْمٌ سِوَى التَّعْدِيَةِ عِنْدَنَا فَمَتَى خَلَا تَعْلِيلٌ عَنْ التَّعْدِيَةِ كَانَ بَاطِلًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّعْلِيلُ وَالْقِيَاسُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَرَادِفَيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ صَحِيحٌ أَيْ التَّعْلِيلُ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ التَّعْدِيَةِ، وَحُكْمُهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْمَنْصُوصِ بِالْعِلَّةِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُتَعَدِّيَةً يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهَا فِي الْفَرْعِ وَيَكُونُ قِيَاسًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيَةً بَقِيَ الْحُكْمُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْأَصْلِ، وَيَكُونُ تَعْلِيلًا مُسْتَقِيمًا بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ الَّذِي هُوَ عَامٌّ، وَاَلَّذِي هُوَ خَاصٌّ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّعْلِيلُ أَعَمَّ مِنْ الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ نَوْعًا مِنْهُ وَحَاصِلُ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَعْدِيَةَ الْعِلَّةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْقِيَاسِ، وَعَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ الثَّابِتَةِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ الْقَاصِرَةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ كَتَعْلِيلِ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ بِعِلَّةِ الثَّمَنِيَّةِ فَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ، وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَمُتَابِعِيهِ إلَى فَسَادِهَا، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِثْلُ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ إلَى صِحَّتِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ مِنْ أَصْحَابِنَا رَئِيسُهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ الْمِيزَانِ تَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا أَيْ الرَّأْيَ الْمُسْتَنْبَطَ

<<  <  ج: ص:  >  >>