للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمَرِيضُ الْإِيصَاءَ لِمَا قُلْنَا لَكِنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ ذَلِكَ نَظَرًا لَهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ اسْتِخْلَاصًا عَلَى الْوَرَثَةِ بِالْقَلِيلِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْحَجْرَ وَالتُّهْمَةَ فِيهِ أَصْلٌ وَلَمَّا تَوَلَّى الشَّرْعَ الْإِيصَاءَ لِلْوَرَثَةِ وَأَبْطَلَ إيصَاءَهُ لَهُمْ

ــ

[كشف الأسرار]

الْقُوَى وَتَرَادُفِ الْآلَامِ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْمَرَضِ مُضْعِفٌ مُوجِبٌ لِأَلَمٍ بِمَنْزِلَةِ جِرَاحَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ سَرَتْ إلَى الْمَوْتِ فَإِنَّهُ يُضَافُ إلَى كُلِّهَا دُونَ الْأَخِيرَةِ فَتَمَّ الْمَرَضُ عِلَّةَ الْحَجْرِ بِاتِّصَالِهِ بِالْمَوْتِ مِنْ حِينِ أَصْلِ الْمَرَضِ الَّذِي أَضْنَاهُ كَالنِّصَابِ صَارَ مُتَّصِفًا بِالنَّمَاءِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ فَيَسْتَنِدُ حُكْمُهُ وَهُوَ الْحَجْرُ إلَى أَصْلِ الْمَرَضِ وَالتَّصَرُّفُ وُجِدَ بَعْدَهُ فَصَارَ تَصَرُّفُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَعْلَمْ قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِالْمَوْتِ أَنَّهُ يَتَّصِلُ بِهِ أَمْ لَا لَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُ الْحَجْرِ بِالشَّكِّ إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْإِطْلَاقُ فَقِيلَ كُلُّ تَصَرُّفٍ وَاقِعٌ مِنْ الْمَرِيضِ إلَى آخِرِهِ كَالْإِعْتَاقِ إذَا وَقَعَ عَلَى حَقِّ غَرِيمٍ بِأَنْ أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا مِنْ مَالِهِ الْمُسْتَغْرَقِ بِالدَّيْنِ.

أَوْ وَارِثٌ بِأَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا قِيمَتُهُ تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ فَحُكْمُ هَذَا الْمُعْتَقِ حُكْمُ الْمُدَبَّرِ قَبْلَ الْمَوْتِ حَتَّى كَانَ عَبْدًا فِي شَهَادَتِهِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ وَإِذَا لَمْ يَقَعْ إعْتَاقُهُ عَلَى حَقِّ غَرِيمٍ أَوْ وَارِثٍ بِأَنْ كَانَ فِي الْمَالِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ نَفَذَ فِي الْحَالِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّ أَحَدٍ بِهِ قَوْلُهُ (وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمَرِيضُ الْإِيصَاءَ لِمَا قُلْنَا) أَنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْمَالِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحَجْرِ، وَالْإِيصَاءُ تَبَرُّعٌ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ لِكَوْنِهِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ كَمَا لَا يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ لَكِنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ ذَلِكَ أَيْ الْإِيصَاءَ نَظَرًا لَهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ فَضَعُوهُ حَيْثُ شِئْتُمْ» وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَدِيثِ «سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قَالَ أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ إلَى أَنْ قَالَ فَبِثُلُثِهِ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ لَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» اسْتِخْلَاصًا أَيْ اسْتِخْصَاصًا وَاسْتِيثَارًا لَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِالْقَلِيلِ وَهُوَ الثُّلُثُ لِيَعْلَمَ بِاسْتِخْلَاصِ الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ أَنَّ الْحَجْرَ وَالتُّهْمَةَ أَيْ تُهْمَةَ إيثَارِهِ الْأَجْنَبِيَّ عَلَى الْوَارِثِ بِاعْتِبَارِ ضَغِينَةٍ كَانَتْ مَعَهُ لَهُ فِيهِ أَيْ فِي الْإِيصَاءِ أَصْلٌ حَتَّى يَسْتَحِبَّ أَنْ يَنْقُصَ الْوَصِيَّةَ مِنْ الثُّلُثِ وَلَا يَبْلُغُهَا إلَى الثُّلُثِ لِمَا عُرِفَ وَقَوْلُهُ نَظَرًا تَعْلِيلٌ لِجَوَازِ الْإِيصَاءِ.

وَقَوْلُهُ اسْتِخْلَاصًا تَعَالِيلُ لِاكْتِفَاءٍ عَلَى الثُّلُثِ إنْ جَازَ ذَلِكَ وَلَوْ قِيلَ لَكِنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ بِقَدْرِ الثُّلُثِ نَظَرًا لَهُ وَاسْتِخْلَاصًا لَكَانَ أَوْضَحَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِخْلَاصًا بَدَلًا مِنْ نَظَرًا فَيَسْتَقِيمُ بِغَيْرِ وَاوٍ أَوْ يَكُونُ عَطْفًا بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ جَوَّزَهُ قَوْلُهُ (وَلَمَّا تَوَلَّى الشَّرْعُ الْإِيصَاءَ لِلْوَرَثَةِ) كَانَ الْإِيصَاءُ لِلْوَرَثَةِ مُفَوَّضًا إلَى الْمَرِيضِ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: ١٨٠] وَقَدْ كَانَ يَجْرِي فِي ذَلِكَ مَيْلٌ إلَى الْبَعْضِ وَمُضَارَّةٌ لِلْبَعْضِ فَنُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: ١١] الْآيَةُ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» فَالشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْنَا بِقَوْلِهِ وَلَمَّا تَوَلَّى الشَّرْعُ الْإِيصَاءَ لِلْوَرَثَةِ أَيْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: ١١] وَأَبْطَلَ إيصَاءَهُ أَيْ نُسِخَ إيصَاءُ الْمَرِيضِ لِلْوَرَثَةِ بِتَوْلِيَةٍ بِنَفْسِهِ لِعَجْزِ الْعَبْدِ عَنْ حُسْنِ التَّدْبِيرِ فِي مِقْدَارِ مَا يُوصِي بِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ لِجَهْلِهِ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: ١١] أَوْ لِقَصْدِهِ مُضَارَّةَ الْبَعْضِ كَمَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: ١٢] وَكَانَ هَذَا نَسْخُ تَحْوِيلٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>