للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإن قصة جبلة بن الأيهم، ملك الغساسنة- الذي أصر الخليفة عمر بن الخطاب على تنفيذ العدل فيه، فهرب وعاد، ثم ندم «١» - لتمثّل دلالة طبيعية معتادة على الإسلام في كل شيء، والذي يقدّم ميزانه دوما على كل اعتبار، دون أي حسابات غير حساب موازينه من منهج الله المنير والسعي لرضاه سبحانه. ولا يجب أن ننتظر منه غيره، مثلما لا ينتظر مثله من أي توجّه أو منهج- إن صح ذلك- أو نظام. بل إنه لمن العبث والضياع والتيه انتظار ذلك من غيره، بل لا نتوقع مطلقا إلا عكسه تماما. أمّا ندم جبلة فلا بد أنه أدرك روعة هذا الإسلام ومحاسنه وتفرده التي حجبت أو تأخرت أو غلبت رؤيتها غروره وزعامته وجاهليته. وقد فات الأوان، إلا لو أنه أقبل من جديد بقوة وثبات وإقدام يعلن موقفه، دون تردد، ولا سيما وهو غارق بدنياه بترفها وأبهتها ونعيمها الزائف الزائل الغرور.

أما موعد شرح الإسلام فكان يتم للمسلمين وللقادمين مسلمين أو بعد أو يدخلوه مؤمنين، أفرادا أو جماعات أو أفواجا.

فكان بقاء القادمين إلى مجتمع المدينة لمدة، ليشهدوا هذا المجتمع القرآني الفريد وليعرفوا من خلال نوعيته هذا المجتمع الذي رباه الإسلام ونشّأه، وأخرجه الله تعالى إلى الحياة مثالا، بهذا الدين العظيم. وكيف وماذا صنع بهم، فكانوا ولادة جديدة للإنسان الفاضل الذي أخذ بهذا المنهج الفريد، المنهج الرباني الوحيد الذي يمكنه أن يصل بالإنسان- فردا ومجتمعا ودولة- إلى هذا الأفق السامي الوضئ، وبه وحده يكون. فكانوا يندهشون مأخوذين بهذا الإنسان الجديد، فيأتي إلى الإسلام فرحا طائعا ويصبح من خيرة أبنائه بعد ما كان من ألد أعدائه، بل ويندم على زمن من عمره أنفقه، معاديا للإسلام أو بعيدا عنه، يحاول ملافاته بمضاعفة جهده واجتهاده وجهاده، مثلما جرى لكثيرين، منهم: الحارث بن هشام بن


(١) أخبار عمر (١٩٣- ١٩٧) .

<<  <   >  >>