ولم يكن الصحابة الكرام يأخذون بالرخصة في أي من هذه الأمور وأمثالها دوما، وعلى ذلك سرت الحياة الإسلامية وسارت مواكبها. ورغم ضعف المسلمين في مكة وقلة عددهم وشدة الاضطهاد عليهم فلم يأخذوا بالرخصة عموما، طيلة العهد المكي، الذي نعرف مقدار ونوعية الاضطهاد فيه للمسلمين، من قبل قريش وصدهم عن سبيل الله، ورفض أهل مكة والعرب من حولها لهذه الدعوة المباركة، رغم إعجازها وبيانها وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم المعروف عندهم قبل النبوة، بحيث إنهم هم الذين سمّوه «الصادق الأمين» ، وحكّموه جميعا راضين، في أكبر حدث كادت تسيل فيه الدماء، يوم الحجر الأسود، وكان سنه صلّى الله عليه وسلّم خمسا وعشرين سنة.
وما كانوا ينكرون صدقه أبدا. ولشدة ثقتهم به وتأكدهم من أمانته وصدقه أنهم كانوا يضعون أماناتهم عنده، وهم يحاربونه ويحاربون رسالة الله التي أنزلها عليه ليبلغا للعالمين. فتراهم يسعون لقتله بكل سبيل. كما يعلمون صدق المسلمين في حملها ويرون آثارها عليهم خيرا وبركة واستقامة ظاهرة متجلجلة.
فمضت قريش بعيدا في اضطهادها إلى القتل بالسلاح والقتل بالجوع والتعذيب الوحشي. واجه المسلمون كل ذلك بالعزيمة القوية التي تهد الجبال، وأعظم وأكبر من الجبال الراسيات «١» .
كل هذا والإسلام في أوله لم تكتمل آياته ولم تتم شريعته ولم تظهر عظيم صوره وبليغات ماثره ولوامع جوامعه ولم تر أمجاده الواسعة وكل معجزاته الرائعة ولم يسجل بعد بواهر انتصاراته المتقدمة ولم يقم مجتمعه المتلاحم ودولته العظيمة وتتبين مفاخر حياته. ولكن الانتصار بدأ وسار موكبه المبارك الميمون لحظة استقرت عقيدته، عقيدة التوحيد «لا إله إلا الله» ومستلزماتها «محمد رسول الله» واستقامت على الهدى خطواته.
(١) انظر: أخبار عمر وأخبار عبد الله بن عمر، (٤٥١) .