للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

توجبه المحبة، فلاحت عيوبه لها -إما بالفكر فيه، أو بالمخالطة له-، تسلت أنفسهم، وتعلقت بمطلوب آخر. فلا يقف على درجة العشق، الموجب للتمسك بتلك الصورة، العامي١ عن عيوبها، إلا جامد واقف.

٣٣٣- وأما أرباب الأنفة من النقائص؛ فإنهم أبدًا في الترقي، لا يصدهم صاد، فإذا علقت الطباع محبة شخص، لم يبلغوا مرتبة العشق المستأثر، بل ربما مالوا ميلًا شديدًا، إما في البداية لقلة التفكير، أو لقلة المخالطة والاطلاع على العيوب، وإما لتشبث بعض الخلال الممدوحة بالنفوس من جهة مناسبة وقعت بين الشخصين، كالظريف مع الظريف، والفطن مع الفطن، فيوجب ذلك المحبة، فأما العشق، فلا، فهم أبدًا في السير، فلا توقف، وإبل الطبع تتبع حادي الفهم، فإن للطبع متعلقًا لا تجده في الدنيا؛ لأنه يروم ما لا يصح وجوده من الكمال في الأشخاص، فإذا تلمح عيوبها نفر.

٣٣٤- وأما متعلق القلوب من محبة الخالق البارئ، فهو مانع لها من الوقوف مع سواه، وإن كانت محبته لا تجانس محبة المخلوقين، غير أن أرباب المعرفة ولهي٢، قد شغلهم حبة عن حب غيره، وصارت الطباع مستغرقة لقوة معرفة القلوب ومحبتها، كما قالت رابعة:

أحب حبيبًا لا أعابُ بحبهِ ... وأحببتم مَنْ فِي هَوَاهُ عُيُوْبُ٣

٣٣٥- ولقد روي عن بعض فقراء الزهاد: أنه مر بامرأة، فأعجبته، فخطبها إلى أبيها، فزوجه، وجاء به إلى المنزل، وألبسه غير خلقانه، فلما جن الليل، صاح الفقير: ثيابي! ثيابي! فقدت ما كنت أجده! فهذه عثرة في طريق هذا الفقير دلته على أنه منحرف عن الجادة.

٣٣٦- وإنما تعتري هذه الحالات أرباب المعرفة بالله عز وجل، وأهل الأنفة من الرذائل. وقد قال ابن مسعود: إذا أعجبت أحدكم امرأة، فيتذكر مثانتها، ومثال هذه


١ العامي: الأعمى.
٢ الوله: مرتبة يستلب فيها عقل العاشق.
٣ في الأصل: "وأحببتهم"، وهو تصحيف.

<<  <   >  >>