للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

١٤٩- فصل: العالم الذي يتكسب يصون عرضه ودينه

٦٨١- حضرنا بعض أغدية أرباب الأموال، فرأيت العلماء أذل الناس عندهم، العلماء يتواضعون لهم، ويذلون لموضع طمعهم فيهم، وهم لا يحفلون بهم، لما يعلمونه من احيتاجهم إليهم. فرأيت هذا عيبًا في الفريقين: أما في أهل الدنيا، فوجه العيب أنهم كان١ ينبغي لهم تعظيم العلم، ولكن لجهلهم بقدره، فاتهم، وآثروا عليه كسب الأموال؛ فلا ينبغي أن يطلب منهم تعظيم ما لا يعرفون، ولا يعلمون قدره.

وإنما أعود باللوم على العلماء، وأقول: ينبغي لكم أن تصونوا أنفسكم التي شرفت بالعلم عن الذل للأنذال. وإن كنتم في غنى عنهم، كان الذل لهم، والطلب منهم حرامًا عليكم. وإن كنتم في كفاف، فلم لم تؤثروا التنزه عن الذل بالعفة عن الحطام الفاني الحاصل بالذلة.

٦٨٢- إلا أنه يتخيل لي من هذا الأمر أني علمت قلة صبر النفس على الكفاف، والعزوف عن الفضول، فإن وجد ذلك منها في وقت، لم يوجد على الدوام. فالأولى للعالم أن يجتهد في طلب الغنى، ويبالغ في الكسب، وإن ضاع بذلك عليه كثير من زمان طلب العلم؛ فإنه يصون بعرضه عرضه. وقد كان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت، وخلف مالًا. وخلف سفيان الثوري مالًا، وقال: لولاك لتمندلوا بي٢.

٦٨٣- وقد سبق في كتابي هذا في بعض الفصول شرف المال٣، ومن كان من الصحابة والعلماء يقتنيه، والسر في فعلهم ذلك، وحتى طالبي العلم على ذلك، ما بينته من أن النفس لا تثبت على التعفف، ولا تصبر على دوام التزهد.

٦٨٤- وكم قد رأينا من شخص قويت عزيمته على طلب الآخرة، فأخرج ما في يده، ثم ضعفت، فعاد يكتسب من أقبح وجه! فالأولى ادخار المال، والاستغناء


١ في الأصل: كانوا.
٢ جعلوني كالمنديل يمسحون بي قذاراتهم وذلك لهواني عليهم.
٣ الفصل "١٠١".

<<  <   >  >>