للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٢١٥- فصل: رضا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربّه.

٩٩١- من أراد أن يعلم حقيقة الرضا عن الله عز وجل في أفعاله، وأن يدري من أين ينشأ الرضا، فليتفكر في أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإنه لما تكاملت معرفته بالخالق سبحانه، رأى أن الخالق مالك، وللمالك التصرف في مملوكه، ورآه حكيمًا لا يصنع شيئًا عبثًا، فسلم تسليم مملوك لحكيم؛ فكانت العجائب تجري عليه، ولا يوجد منه تغير، ولا من الطبع تأفف، ولا يقول بلسان الحال: لو كان كذا! بل يثبت للأقدار ثبوت الجبل لعواصف الرياح.

٩٩٢- هذا سيد الرسل صلى الله عليه وسلم بعث إلى الخلق وحده، والكفر قد ملأ الآفاق، لجعل يفر من مكان إلى مكان، واستتر في دار الخيزران١، وهم يضربونه إذا خرج، ويدمون عقبه٢، وألقى٣ السلى على ظهره، وهو ساكت ساكن ويخرج كل موسم فيقول:"من يؤويني؟ من ينصرني؟ " ... ثم خرج من مكة، فلم يقدر على العود إلا في جوار كافر٤.

ولم يوجد من الطبع تأفف، ولا من الباطن اعتراض، إذ لو كان غيره، لقال: يا رب! أنت مالك الخلق، وقادر على النصر، فلم أذل؟! كما قال عمر رضي الله عنه يوم صلح الحديبية: ألسنا على الحق؟! فلم نعطي الدنية في ديننا؟! ولما قال هذا، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "إني عبد الله، ولن يضيعني" ٥. فجمعت الكلمتان الأصلين اللذين ذكرناهما: فقوله: "إني عبد الله": إقرار بالملك، وكأنه قال: أنا مملوك يفعل بي ما يشاء. وقوله: "لن يضيعني": بيان حكمته، وأنه لا يفعل شيئًا عبثًا.

ثم يبتلى بالجوع، فيشد الحجر٦، {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون: ٧] .


١ هي دار الأرقم بن أبي الأرقم، ثم تملكتها الخيزران زوجة الخليفة العباسي محمد المهدي وأم ابنيه موسى الهادي وهارون الرشيد، وكانت حازمة متفقهة، توفيت سنة "١٧٣هـ".
٢ رواه ابن هشام في السيرة "١/ ٢٦٠" عن ابن إسحاق.
٣ في الأصل: وشق.
٤ هو مطعم بن عدي.
٥ رواه البخاري "٣١٨٢"، ومسلم "١٧٨٥" عن سهل بن حنيف رضي الله عنه.
٦ كما في غزوة الخندق رواه البخاري "٤١٠٢"، و "٤١٠١"، ومسلم "٢٠٣٩" عن جابر رضي الله عنه.

<<  <   >  >>