للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٩٨- فصل: أخذ الإشارات من الأشعار

٤٧٢- ربما أخذ المتيقظ بيت شِعْرٍ، فأخذ منه إشارةً، فانتفع بها، قال الجُنَيْدُ: ناولني سري رقعة، مكتوب فيها: سمعت حاديًا١ في طريق مكة شرفها الله تعالى يقول:

أَبْكِي وما يدريك ما يبكيني ... أبكي حذار أن تفارقيني

وتقطعي حبلي وتهجريني

فانظر -رحمك الله ووفقك- إلى تأثير هذه الأبيات عند سَرِيٍّ، حتى أحب أن يطلع منها الجنيد على ما اطلع عليه، ولم يصلح للاطلاع على مثلها إلا الجنيد.

فإن أقوامًا فيهم كثافة طبع وخشونة فهم، قال بعضهم لما سمع مثل هذه: إلام يشار بهذه؟ إن كان إلى الحق، فالحق -عز وجل- لا يشار إليه بلفظ تأنيث، وإن كان إلى امرأة، فأين الزهد؟! ولعمري إن هذا حداء أهل الغفلة إذا سمعوا مثل هذا، ولذلك ينهى عن سماع القصائد وأقوال أهل الغناء؛ لأن الغالب حمل تلك الأبيات على مقاصد النفس وغلبات الهوى. ومن أين لنا مثل الجنيد وَسَرِيٍّ؟! وإذا وجدنا مثلهما، فهما خبيران بما يسمعان.

٤٧٣- وأما اعتراض هذا الكثيف الطبع، فالجواب: أن سريا لم يأخذ الإشارة من اللفظ، ولم يقس ذلك على مطلوبه، فيصيره تأنيثًا أو تذكيرًا؛ وإنما أخذ الإشارة من المعني، فكأنه يخاطب حبيبه بمعنى الأبيات، فيقول: أبكي حذارًا من إعراضك وإبعادك! فهذا الحاصل له، وما التفت قط إلى تذكير ولا إلى تأنيث، فافهم هذا٢!

٤٧٤- وما زال المتيقظون يأخذون الإشارة من مثل هذا، حتى كانوا يأخذونها من هذا الذي تقوله العامة ويلقبونه بـ "كان وكان"٣.


١ الحادي: من ينشد للإبل كي تسرع في سيرها.
٢ قال سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام في قواعده "١/ ٣٥٦": تشبيه النفيس بالخسيس سوء أدب لا شك فيه، كالتشبيه بالخصر والردف ونحو ذلك من التشبيهات المستقبحات.
٣ نوع من الزجل اخترعه البغداديون، نظموا فيه أقاصيص وأساطير، يكون كل شطر من الأشطر الأربعة مخالفًا للشطر الآخر في الوزن، وليس على الناظم أن يلتزم إلا قافية الشطر الأخير، جميل سلطان "كتاب الشعر" ص "١٦٨".

<<  <   >  >>