للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٢٠٠- فصل: الغفلة المحمودة والغفلة المذمومة.

٩٢١- حضرنا يومًا جنازة شاب مات أحسن ما كانت الدنيا له، فرأيت من ذم الناس للدنيا، وعيب من سكن إليها، والتقبيح للغافلين عن الاستعداد لهذا المصرع أمرًا كبيرًا من الحاضرين، فقلت: نعم ما قلتم، ولكن اسمعوا مني ما لم تسمعوه:

أعجب الأشياء أن العاقل إذا علم قرب هذا المصرع منه، أوجب عليه عقله البدار بالعمل، والقلق من الخوف. وقد اشتد ذلك بأقوام، فهاموا في البراري، وطووا الأيام بالمجاعة، وداموا على سهر الليل، ولازموا المقابر، فهلكوا سريعًا، ولعمري، إن ما خافوه يستحق أكثر من هذا الفعل.

ولكن نرى العقل الذي أوجب هذا القلق، قد أمر بما يوجب السكون، فقال: إنما خلق هذا البدن ليحمل النفس، كما تحمل الناقة الراكب، ولا بد من التلطف بالناقة، ليحصل المقصود من السير. ولا يحسن في العقل دوام السهر، وطول القلق؛ لأنه يؤثر في البدن، فيفوت أكثر المقصود. كيف وقد خلق بدن الآدمي خلقًا لطيفًا، فإذا هجر الدسم، نشف الدماغ، وإذا دام على السهر، قوي اليبس، وإذا لازم الحزن، مرض القلب؟! فلا بد من التلطف بالبدن، بتناول ما يصلحه، وبالقلب، بما يدفع الحزن المؤذي له؛ وإلا فمتى دام المؤذي، عجل التلف.

ثم يأتي الشرع بما قد قاله العقل: فيقول: "إن لنفسك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، فصم وأفطر، وقم ونم". ويقول: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يفوت". ويحث على النكاح١.

٩٢٢- ودوام القلق واليبس يترك الزوجة كالأرملة، والولد كاليتيم، ولا وجه للتشاغل بالعلم مع هذا القلق. ومن أراد مصداق ما قلته، فيلتأمل حالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يعدل ما عنده من الخوف فيمازح، ويسابق عائشة، ويكثر من التزوج، وكان


١ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ... " الحديث رواه البخاري "٥٠٦٦"، ومسلم "١٤٠"، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

<<  <   >  >>