للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٤٧٦- ومازلت أغلب نفسي تارةً، وتغلبني أخرى، ثم تدعي الحاجة إلى تحصيل ما لا بد لها منه، وتقول: فما أتعدى في الكسب المباح في الظاهر! فقلت لها: أو ليس الورع يمنع من هذا؟ قالت: بلى، قلت: أليست القسوة في القلب تحصل به؟ قالت: بلى. قلت: فلا خير لك في شيء هذا ثمرته!

٤٧٧- فخلوت يومًا بنفسي، فقلت لها: ويحك! اسمعي أحدثك! إن جمعت شيئًا من الدنيا من وجه فيه شبهة، أفأنت على يقين من إنفاقه؟ قالت: لا. قلت: فالمحنة أن يحظى به الغير، ولا تنالين إلا الكدر العاجل، والوزر الذي لا يؤمن.

ويحك! اتركي هذا الذي يمنع منه الورع لأجل الله، فعامليه بتركه. وكأنك لا تريدين أن١ تتركي إلا ما هو محرم فقط، أو ما لا يصح وجهه؟ أو ما سمعت أن: "من ترك شيئًا للهِ، عوضه الله خيرًا منه"٢؟! أما لك عبرة في أقوام جمعوا، فحازه سواهم، وأملوا فما بلغو مناهم؟! كم من عالم جمع كُتُبًا كثيرةً ما انتفع بها! وكم من منتفع ما عنده عشرة أجزاءٍ! وكم من طيب العيش لا يملك دينارين! وكم ن ذي قناطير مُنَغَّصٍ!

أما لك فطنة تتلمح أحوال من يترخص من وجهٍ، فيسلب منها من أوجهٍ؟! ربما نزل المرض بصاحب الدار، أو ببعض من فيها، فأنفق في سنته أضعاف ما ترخيص في كسبه، والمتقي معافًى.

فضجت النفس من لومي، وقالت: إذا لم أتعد واجب الشرع، فما الذي تريد مني؟! فقلت لها: أضن بك عن الغبن، وأنت أعرف بباطن أمرك. قالت: فقل لي: ما أصنع؟ قلت: عليك بالمراقبة لمن يراك، ومثلي نفسك بحضرة معظم من الخلق؛ فإنك بين يدي الملك الأعظم، يرى من باطنك ما لا يراه المعظمون من ظاهرك، فخذي بالأحوط، واحذري من الترخص في بيع اليقين والتقوى بعاجل الهوى، فإن ضاق الطبع مما تلقين، فقولي له: مهلًا، فما انقضت مدة الإشارة! والله مرشدك إلى التحقيق، ومعينك بالتوفيق.


١ في الأصل: ألّا.
٢ رواه أحمد "٥/ ٣٦٣"، والنسائي في الكبرى، والقضاعي "١١٣٥" عن رجل من أهل البادية.

<<  <   >  >>