للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَطَالِبُ دُنْيَا"١؟!

قلت: أمّا العالم، فلا أقول له: اشبع من العلم، ولا اقتصر على بعضه، بل أقول له: قدم المهم؛ فإن العاقل من قدر عمره، وعمل بمقضتاه، وإن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر، غير أنه يبني على الأغلب، فإن وصل، فقد أعد لكل مرحلة زادًا، وإن مات قبل الوصول، فنيته تسلك به٢.

٥٤٤- فإذا علم العاقل أن العمر قصير، وأن العلم كثير، فقبيح بالعاقل الطالب لكمال الفضائل أن يتشاغل مثلًا بسماع الحديث ونسخه، ليحصل كل طريق، وكل رواية، وكل غريب، وهذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة، خصوصًا إن تشاغل بالنسخ، ثم لا يحفظ القرآن، أو يتشاغل بعلوم القرآن، ولا يعرف الحديث، أو بالخلاف في الفقه، ولا يعرف النقل الذي عليه مدار المسألة.

٥٤٥- فإن قال قائل: فدبر لي ما تختار لنفسك. فأقول: ذو الهمة لا يخفى من زمان الصبا، كما قال سفيان بن عيينه٣: قال لي أبي، وقد بلغت خمس عشرة سنة: إنه قد أنقضت عنك شرائع الصبا، فاتبع الخير، تكن من أهله. فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها، ولا أميل عنها.

٥٤٦- ثم قبل شروعي في الجواب أقول: ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من


١ رواه الحاكم "١/ ٩٢" عن أنس، قال الحاكم: هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي
٢ في حاشية الأصل: فحسبه تلك، قلت في الأحمدية والمصرية: فنيته تسلك به.
٣ أبو محمد، الهلالي الكوفي، ثم المكي حافظ العصر، شيخ الإسلام، ولد بالكوفة سنة "١٠٧هـ"، وجاور بمكة، وصار محدث الحرم، توفي بمكة سنة "١٩٨هـ" وله خبر طريف ذكره في سير أعلام النبلاء "٨/ ٤٥٩": سمعت أحمد بن النضر الهلالي، سمعت أبي يقول: كنت في مجلس سفيان بن عيينة، فنظر إلى صبي، فكان أهل المسجد تهاونوا به لصغره، فقال سفيان: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: ٩٤] ثم قال: يا نضر! لو رأيتني ولي عشر سنين، طولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفار، أختلف إلى علماء الأمصار، كالزهري وعمرو بن دينار، أجس بينهم كالسمسار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا أتيت، قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير، ثم ضحك.

<<  <   >  >>