للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٦٩١- ثم رأيت خلقًا كثيرًا لا يتبعون الدليل بطريق إثباته، كاليهود والنصارى؛ فإنهم يقلدون الآباء، ولا ينظرون فيما جاء من الشرائع، هل صحيح أم لا؟! وكذلك يثبتون الإله، ولا يعرفون ما يجوز عليه مما لا يجوز، فينسبون إليه المولد! ويمنعون جواز تغييره ما شرع! وهؤلاء لم ينظروا حق النظر، لا في غثبات الصانع وما يجوز عليه، ولا في الدليل على صحة النبؤات، فتقع أعمالهم ضائعة، كالباني على رمل.

٦٩٢- ومن هذا القبيل في المعنى قوم يتعبدون ويتزهدون، وينصبون أبدانهم في العمل١ بأحاديث باطلة، ولا يسألون عنها من يعلم!

٦٩٣- ومن الناس من يثبت الدليل، ولا يفهم المقصود الذي دل عليه الدليل، ومن هذا الجنس قوم سمعوا ذم الدنيا، فتزهدوا، وما فهموا المقصود، فظنوا أن الدنيا تذم لذاتها، وأن النفس تجب عداوتها، فحملوا على أنفسهم فوق ما يطاق، وعذبوها بكل نوع، ومنعوها حظوظها، جاهلين بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن لنفسك عليك حقًّا"، وفيهم من أدته الحال إلى ترك الفرائض، ونحول الجسم، وضعف القوى! وكل ذلك لضعف الفهم المقصود، والتلمح للمراد.

٦٩٤- كما روي عن داود الطائي: أنه كان يترك ماء في دن تحت الأرض، فيشرب منه، وهو شديد الحر! وقال لسفيان: إذا كنت تأكل اللذيذ الطيب، وتشرب الماء البارد المبرد، فمتى تحب الموت والقدوم على الله؟!

وهذا جهل بالمقصود، فإن شرب الماء الحار يورث أمراضًا في البدن، ولا يحصل به الري، وما أمرنا بتعذيب أنفسنا "على هذه"٢ الصورة، بل بخلاف ما تدعو إليه مما نهى الله عنه.

وفي الحديث الصحيح: إن أبا بكر رضي الله عنه لما حلب له الراعي في طريق الهجرة، صب الماء على القدح حتى برد أسفله، ثم سقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرش له في ظل صخرة. وكان يستعذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء، وقال: "إن كان عندكم ماء بات


١ في الأصل: العلم، وهو تصحيف.
٢ في الأصل: في.

<<  <   >  >>