للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تَأَوَّلَ، وربما تكاسل عن التأويل اتكالًا على عفو الله تعالى، ووعدًا من النفس بالتوبة! ومنهم: من يرى أن استعمال الشرع ربما كان سببًا في تضييق معاشه، وقد ألف التفسح١، فلا يسهل عليه فراق ما قد ألف! والعادات في الجملة هي المهلكة.

٧٥٣- ولقد حضر عندي رجل شيخ ابن ثمانين سنةً، فاشتريت منه دكانًا، وعقدت معه العقد، فلما افترقنا؛ غدر بعد أيام، فطلبت منه الحضور عند الحاكم، فأبى، فأحضرته، فحلف اليمين الغموس٢: أن ما بعته! فقلت: ما تدور عليه السنة٣! وأخذ يبرطل٤ لمن يحول بيني وبينه من الظلمة، فرأيت من العوام من قد غلبت عليه العادات، فلا يلتفت معها إلى قول فقيه، يقول: هذا ما قبض الثمن، فكيف يصح البيع؟! وآخر يقول: كيف يجوز لك أن تأخذ دكانًا بغير رضاه؟! وآخر يقول: يجب عليك أن تقيله البيع٥!. فلما لم أقله، أخذ هو وأقاربه يأخذون عرضي، ورأى أنه يحامي عن ملكه.

ثم سعى بي إلى السلطان سعاية يحرض فيها من الكذب ما أدهشني، ويبرطل مالًا ليخلق من الظلمة، فبالغوا، وسعوا؛ إلا أن الله تعالى نجاني من شرهم.

ثم إني أقمت عليه البينة عند الحاكم، فقال بعض أرباب الدنيا للحاكم: لا تحكم له! فوقف عن الحكم بعد ثبوت البينة عنده!! فرأيت من هذا الحاكم ومن حاكم آخر أعلى منه من ترك إنفاذ الحق حفظًا لرئاستهم ما هون عندي ما فعله ذلك الشيخ حفظًا لماله، لجهله وعلم هؤلاء.

فتجلى لي من الأمر أن العادات غلبت على الناس، وأن الشرع أعرض عنه، وإن وقعت موافقة للشرع، فكما اتفق، أو لأجل العادة، فإن الإنسان لو ضرب بالسياط ما أفطر في رمضان، عادة قد استمرت، ويأخذ أعراض الناس وأموالهم، عادةً غالبَةً!


١ التفسح: طلب الفسحة والنزهة للترويح عن النفس.
٢ اليمين الغموس: هي اليمين الكاذبة التي يتعمدها صاحبها وهو يعلم أنه يكذب، وسميت غمواس؛ لأنها تغمس صاحبها في نار جهنم.
٣ خوفته من عقوبة اليمين الغموس بذكر الأحاديث المرهبة.
٤ يبرطل: يرشي.
٥ أقال البيع: فسخه.

<<  <   >  >>