كتاب صيد الخاطر

صيد الخاطر - ثمرات العلم - ص: 248

جزى الله المسير إليه خيرًا ... وإن ترك المطايا كالمزاد١

٧٦٧- ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل، لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى٢، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة، شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم.

فأثمرت ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث سير الرسول صلى الله عليه وسلم وأحواله وآدابه وأحوال أصحابه وتابعيهم، فصرت في معرفة طريقه كابن أجود٣.

وأثمر ذلك عندي من المعاملة ما لا يدرك بالعلم، حتى إنني أذكر في زمان الصبوة ووقت الغلمة٤ والعزبة قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء الزلال، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي العلم من خوف الله عز وجل، ولولا خطايا لا يخلو منها البشر، لقد كنت أخاف على نفسي من العجب؛ غير أنه عز وجل صانني وعلمني وأطلعني من أسرار العلم على معرفته، وإيثار الخلوة به، حتى إنه لو حضر معي معروف وبشر، لرأيتهما زحمة.

٧٦٨- ثم عاد فغمسني في التقصير والتفريط، حتى رأيت أقل الناس خيرًا مني، وتارة يوقظني لقيام الليل ولذة مناجاته، وتارة يحرمني ذلك مع سلامة بدني، ولولا بشارة العلم بأن هذا نوع تهذيب وتأديب، لخرجت إما إلى العجب عند العمل، وإما إلى اليأس عند البطالة؛ لكن رجائي في فضله قد عادل خوفي منه.

٧٦٩- وقد يغلب الرجاء بقوة أسبابه؛ لأني رأيت أنه قد رباني منذ كنت طفلًا، فإن أبي مات وأنا لا أعقل والأم لم تلتفت إلي، فركز في طبعي حب العلم، وما زال يوقعني على المهم فالمهم، ويحملني إلى من يحملني على الأصوب، حتى قوم أمري، وكم قد قصدني عدو فصده عني، وإذ رأيته قد نصرني

---

١ مزاد ومزادة: وعاء من جلد: أي أن المطايا هزلت من كثرة الأسفار حتى صارت جلدًا على عظم.
٢ نهر عيسى: نهر غربي بغداد، وحوله متنزهات وبساتين، ينسب إلى عيسى بن علي.
٣ الدليل.
٤ وقت الغلمة: سن الشباب.