للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٨٧٤- وما رأيت مثل ما يصنع المخالط؛ لأنه يرى حالته الحاضرة من لقاء الناس وكلامهم، فيشتغل بها عما بين يديه، فمثله كمثل رجل يريد سفرًا قد أزف١، فجالس أقوامًا، فشغلوه بالحديث، حتى ضرب البوق٢ وما تزود!

فلو لم يكن في العزلة إلا التفكير في زاد الرحيل، والسلامة من شر المخالطة، كفى.

٨٧٥- ثم لا عزلة على الحقيقة إلا للعالم والزاهد، فإنهما يعلمان مقصود العزلة، وإن كانا لا في عزلة.

أما العالم، فعلمه مؤنسه، وكتبه محدثه، والنظر في سير السلف مقومه، والتفكير في حوادث الزمان السابق فرجته، فإن ترقى بعلمه إلى مقام المعرفة الكاملة للخالق سبحانه، وتشبث بأذيال محبته: تضاعفت لذاته، واشتغل بها عن الأكوان وما فيها، فخلا بحبيبه، وعمل معه بمقتضى علمه.

وكذلك الزاهد، تعبده أنيسه، ومعبوده جليسه، فإن كشف لبصره عن المعمول معه، غاب عن الخلق، وغابوا عنه؛ إنما اعتزلا ما يؤذي، فهما في الوحدة بين جماعةٍ.

فهذان رجلان قد سلما من شر الخلق، وسلم الخلق من شرورهما؛ بل هما قدوة للمتعبدين، وعلم للسالكين، ينتفع بكلامهما السامع، وتجري موعظتهما المدامع، وتنشر هيبتهما في المجامع؛ فمن أراد أن يتشبه بأحدهما، فليصابر الخلوة، وإن كرهها، ليثمر له الصبر العسل.

٨٧٦- وأعوذ بالله من عالم مخالط للعالم، خصوصًا لأرباب المال والسلاطين، يجتلب ويجتلب٣، [ويختلب] ويختلب٤، فما يحصل له شيء من الدنيا إلا وقد ذهب من دينه أمثاله.

ثم أين الأنفة من الذل للفساق؟!


١ أزف: دنا واقترب.
٢ ضرب البوق: إيذان بالسفر.
٣ ينتفع وينفع.
٤ يَخدَع ويُخدع.

<<  <   >  >>