للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولا يزال الشيطان يحرضه على الزهد، ويأمره بالترك، ويخوفه من طرقات الكسب، إظهارًا لنصحه، وحفظ دينه، وفي خفايا ذلك عجائب من مَكْرِهِ!

٤٠- وربما تكلم الشيطان على لسان بعض المشايخ الذين يقتدي بهم التائب؛ فيقول له: اخرج من مالك! وادخل في زمرة الزهاد! ومتى كان لك غداء أو عشاء، فلست من أهل الزهد، ولا تنال مراتب العزم، وربما كرر عليه الأحاديث البعيدة عن الصحة، والواردة على سبب ولمعنى؛ فإذا أخرج ما في يده، وتعطل عن مكاسبه، عاد يعلق طمعه بصلة الإخوان، أو يحسن عنده صحبة السلطان؛ لأنه لا يقوى على طريق الزهد والترك إلا أيامًا، ثم يعود الطبع، فيتقاضى مطلوباته، فيقع في أقبح مما فر منه، ويبذل أول السلع في التحصيل دينه وعرضه، ويصير متمنْدَلًا به١، ويقف في مقام اليد السفلى.

٤١- ولو أنه نظر في سير الرجال ونبلائهم، وتأمل صحاح الأحاديث عن رؤسائهم، لعلم أن الخليل عليه الصلاة والسلام كان كثير المال حتى ضاقت بلدته بمواشيه، وكذلك لوط عليه الصلاة والسلام، وكثير من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والجم الغفير من الصحابة.

وإنما صبروا عند العدم، ولم يمتنعوا عن كسب ما يصلحه، ولا من تناول المباح عند الوجود.

وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج للتجارة والرسول صلى الله عليه وسلم حي، وكان أكثرهم يخرج فاضل ما يأخذ من بيت المال، ويسلم من ذل الحاجة إلى الإخوان.

وقد كان ابن عمر لا يرد شيئًا، ولا يسأل.

٤٢- وإني تأملت على أكثر أهل الدين والعلم هذه الحال، فوجدت العلم شغلهم عن المكاسب في بداياتهم، فلما احتاجوا إلى قوام نفوسهم ذلوا، وهم أحق بالعز.

٤٣- وقد كانوا قديمًا يكفيهم بيت المال فضلات الإخوان، فلما عدمت في


١ أي هان عليه دينه وعرضه حتى أصبح كال: منديل الذي يبتذل فتمسح به الأقذار.

<<  <   >  >>