للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مات القائم بأمر الله١؛ فإنه غسله، وخرج ينفض أكمامه، فقعد في مسجده لا يبالي بأحد، ونحن منزعجون لا ندري ما يجري علينا. وذاك أن التميمي كان متعلقًا على السلطان، يمضي له في الرسائل، فخاف مغبة القرب٢. وقد رأينا جماعة من العلماء خالطوا السلطان، فكانت مغبتهم سيئة.

ولعمري، إنهم طلبوا الراحة، فأخطئوا طريقها؛ لأن غموم القلب لا توازيها لذة مال، ولا لذة مطعم، هذا في الدنيا قبل الآخرة.

٩٦١- ومن أشرف وأطيب عيشًا من منفرد في زاوية، لا يخالط السلاطين، ولا يبالي أطاب مطعمه أم لم يطب؟! فإنه لا يخلو من كسرة وقعب٣ ماء، ثم هو سليم من أن تقال له كلمة تؤذيه، أو يعيبه الشرع حين دخوله عليهم أو الخلق.

٩٦٢- ومن تأمل حال أحمد بن حنبل في انقطاعه، وحال ابن أبي داود٤ ويحيى بن أكثم، عرف الفرق في طيب العيش في الدنيا، والسلامة في الآخرة.

٩٦٣- وما أحسن ما قال ابن أدهم: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذيذ العيش، لجالدونا عليه بالسيوف٥. ولقد صدق ابن أدهم؛ فإن السلطان إن أكل شيئًا، خاف أن يكون قد طرح له فيه سم، وإن نام، خاف أن يغتال، وهو وراء المغاليق، لا يمكنه أن يخرج لفرجة٦؛ فإن خرج، كان منزعجًا من أقرب الخلق إليه، واللذة التي ينالها تبرد عنده، ولا تبقى له لذة مطعم ولا منكح، وكلما استظرف المطاعم، أكثر منها، ففسدت معدته، وكلما استجد الجواري، أكثر منهن، فذهبت قنوته، ولا يكاد يبعد ما بين الوطء والوطء، فلا يجد في الوطء كبير لذة؛ لأن لذة الوطء بقدر بعد ما بين الزمانين، وكذلك لذة الأكل؛ فإن من أكل على شبع، ووطئ


١ عبد الله بن القادر بالله أحمد بن إسحاق، الخليفة العباسي كان في خير واهتمام بالرعية، توفي سنة "٤٦٧هـ".
٢ مغبة القرب: عاقبته.
٣ القعب: القدح.
٤ الإيادي، أبو عبد الله "١٦٠-٢٤٠هـ" القاضي، رأس فتنة القول بخلق القرآن.
٥ جالدونا: قاتلونا.
٦ الفرجة: الخروج للتنزه والتفسح.

<<  <   >  >>