للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ألم ير المنكرات ولا ينكر؟! ويتناول من طعامهم الذي لا يكاد يحصل إلا بظلم، فينطمس قلبه، ويحرم لذة المعاملة للحق سبحانه، ثم لا يقدر أن يهتدي به١ أحد؟ بل ربما كان فعل هذا سببًا لإضلال الناس وصرفهم عن الاقتداء به!

فهو يؤذي نفسه، ويؤذي أميره؛ لأنه يقول: لولا أنني على صواب، ما صحبني، ولأنكر علي، ويؤذي العوام، تارة بأن يروا أن ما فيه الأمير صواب، وتارة بأن الدخول عليه والسكوت عن الإنكار جائز، أو يحبب إليهم الدنيا، ولا خير -والله- في سعة من الدنيا ضيقت طريق الآخرة.

١٣١٧- وأنا أفدي أقوامًا صابروا عطش الدنيا في هجير الشهوات زمان العمر حتى رووا يوم الموت من شرب الرضا، وبقيت أذكارهم تروى، فتروي صدى٢ القلوب، وتجلو صداها٣، هذا الإمام أحمد، يحتاج، فيخرج إلى اللقاط، ولا يقبل مال سلطان. هذا إبراهيم الحربي، يتغذى بالبقل، ويرد على المعتضد٤ ألف دينار. هذا بشر الحافي، يشكو الجوع، فيقال له: يصنع لك حساء من دقيق؟ فيقول:

أخاف أن يقول الله لي: هذا الدقيق من أين لك؟!

بقيت والله أذكار القوم، وما كان الصبر إلا غفوة نوم، ومضت لذات المترخصين، وبليت الأبدان، ووهن الدين.

١٣١٨- فالصبر الصبر يا من وفق! ولا تغبطن من اتسع له أمر الدنيا، فإنك إذا تأملت تلك السعة، رأيتها ضيقًا في باب الدين! ولا ترخص لنفسك في تأويل، فعمرك في الدنيا قليل!

وسواء إذا انقضى يوم كسرى ... في سرور ويوم صابر كِسْرَهْ٥


١ في الأصل: من قوله: "ألم تر ... " إلى قوله: "يهتدي بك". جاءت بصيغة المخاطب.
٢ صدى: عطش.
٣ صداها: ما يترسب عليها من آثار المعاصي فيحجبها عن الانتفاع بالمواعظ.
٤ في الأصل: "المعتصم"، والتصويب من سير أعلام النبلاء "١٣/ ٣٦٠".
٥ كسره: كسرة خبز.

<<  <   >  >>