للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

التلاوة، ولا يتلمح عظمة المتكلم، ولا زجر القرآن ووعده، وربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه، فتراه يترخص في الذنوب، ولو فهم، لعلم أن الحجة عليه أقوى ممن لم يقرأ!

والمحدث يجمع الطرق، ويحفظ الأسانيد، ولا يتأمل مقصود المنقول، ويرى أنه قد حفظ على الناس الأحاديث، فهو يرجو بذلك السلامة، وربما ترخص في الخطايا، ظنًّا منه أن ما فعل في الشريعة يدفع عنه!

والفقيه قد وقع له أنه بما قد عرف من الجدال، الذي يقوي به خصامه، أو المسائل التي قد عرف فيها المذهب: قد حصل بما يفتي به الناس ما يرفع قدره، ويمحو ذنبه؛ فربما هجم على الخطايا، ظنًّا منه أن ذلك يدفع عنه! وربما لم يحفظ القرآن، ولم يعرف الحديث، وأنهما ينهيان عن الفواحش بزجر ورفق، وينضاف إليه -مع الجهل بهما- حب الرئاسة، وإيثار الغلبة في الجدل، فتزيد قسوة قلبه!

وعلى هذا أكثر الناس، صور العلم عندهم صناعة، فهي تكسبهم الكبر والحماقة.

١٤٧٢- وقد حكى بعض المعتبرين، عن شيخ أفنى عمره في علوم كثيرة، أنه فتن في آخر عمره بفسق أصر عليه، وبارز الله به، وكانت حاله تعطى بمضمونها: أن علمي يدفع عني شر ما أنا فيه، ولا يبقى له أثر! وكان كأنه قد قطع لنفسه بالنجاة، فلا يرى عنده أثر لخوف، ولا ندم على ذنب!! قال: فتغير في آخر عمره، ولازمه الفقر؛ فكان يلقى الشدائد، ولا ينتهي عن قبح حاله، إلى أن جمعت له يومًا قراريط١ على وجه الكدية٢، فاستحيا من ذلك، وقال: يا رب! إلى هذا الحد؟! قال الحاكي: فتعجبت من غفلته، كيف نسي الله عز وجل، وأراد منه حسن التدبير له، والصيانة، وسعة الرزق؟! وكأنه ما سمع قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: ١٦] ، ولا علم أن المعاصي تسد أبواب الرزق، وأن من ضيع أمر الله ضيعه الله؟! فما رأيت علمًا ما أفاد كعلم هذا؛ لأن العالم إذا زل انكسر٣، وهذا


١ القيراط = ٠.٢٢٣٢ غ.
٢ الكدية: الاستجاء وسؤال الناس.
٣ انكسر: انذلّ.

<<  <   >  >>