للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اطلعت على سير الخلق من الملوك والوزراء والعلماء والأدباء والفقهاء والمحدثين والزهاد وغيرهم؛ فرأيت الدنيا قد تلاعبت بالأكثرين تلاعبًا أذهب أديانهم، حتى كانوا لا يؤمنون بالعقاب.

١٥٣٦- فمن الأمراء من يقتل، ويصادر، ويقطع، ويحبس بغير حق، ثم ينخرط في سلك المعاصي، كأن الأمر إليه، أو قد جاءه الأمن من العقاب؛ فربما تخايل أن حفظي الرعايا يرد عني، وينسى أنه قد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: ١٥]

١٥٣٧- وقد انخرط جماعة ممن يتسم بالعلم في سلك المعاصي لتحصيل أغراضهم العاجلة، فما نفعهم العلم!

ورأينا خلقًا من المتزهدين "خالفوا" لنيل أغراضهم! وهذا؛ لأن الدنيا فخ، والناس كعصافير، والعصفور يريد الحبة، وينسى الخنق. قد نسي أكثر الخلق مالهم، ميلًا إلى عاجل لذاتهم، فأقبلوا يسامرون الهوى، ولا يلتفتون إلى مشاورة العقل. فلقد باعوا بلذة يسيرة خيرًا كثيرًا، واستحقوا١ بشهوات مرذولة عذابًا عظيمًا. فإذا نزل بأحدهم الموت، قال: ليتني لم أكن! {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: ٤٠] ! فيقال له: {آلْآنَ} [يونس: ٩١] .

١٥٣٨- فوا أسفًا، لفائت لا يمكن استدراكه، ولمرتهن لا يصلح فكاكه، ولندم لا ينقطع زمانه، ولمعذب عز عليه إيمانه.

١٥٣٩- بالله، ما نفعت العقول إلا لمن يلتفت إليها، ويعول عليها، ولا يمكن قبول مشاورها إلا بعزيمة الصبر عما يشتهي.

١٥٤٠- فتأمل في الأمراء عمر بن الخطاب، وابن عبد العزيز رضي الله عنهما، وفي العلماء أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وفي الزهاد أويسًا القرني٢، لقد أعطوا الجد حقه، وفهموا مقصود الوجود.


١ في الأصل: استبدلوا.
٢ أويس بن عامر بن القرني المرادي اليماني، أبو عمر، القدوة العابد، سيد التابعين بشهادة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وجد مقتولًا في صفين مع أصحاب علي رضي الله عنه سنة "٣٧هـ".

<<  <   >  >>