ومما يعاب على الشيخ عمرو أنه أساء العبارة في حق الحافظ ابن حجر، فقال في (ص ٢٩) تعليقًا على رأي الحافظ في أن ابن المديني يستعمل الحَسَن بالمعنى الاصطلاحي: «وهذه دعوى مجرَّدة عارية عن الدليل، فأين اطلع ابن حجر على «مسند علي ابن المديني»، وقد أكلته الأرضة؟»!! هذا ما قاله، وفيه نظر، فابن كثير أكثر النقل في هذا الكتاب عن ابن المديني، والحافظ ابن حجر ممن قرأه وعلَّق عليه، كما بيَّنت ذلك في المقدمة. ثم هَب أن الحافظ لم يطلع على «مسند ابن المديني»، فقد اطلع على غيره من كُتُبه، وفَهِمَ من إطلاقاته إرادة المعنى الاصطلاحي، ووافقه على هذا الفَهم من سَبَقه، ومنهم: الحافظ ابن كثير، كما في المثال رقم (٢٦٨) من هذا الكتاب. وإذا كان الحافظ لم يطلع على «مسند ابن المديني»، فكذلك الشيخ عمرو لم يطلع عليه، فمن أين له أن ابن المديني لا يعني إلا الغرابة؟ وإليك بعض الأمثلة التي يتضح من خلالها استعمال الحفاظ لمصطلح الحسن بمعناه الاصطلاحي: ١ - فقد أخرج البخاري (١٥٦٥) ومسلم (١٢٢١) (١٥٤) (١٥٦) من طريق قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى قال: قَدِمْتُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو بالبطحاءِ، فقال: «بِمَ أَهْلَلْتَ؟». فقلتُ: بإهلالٍ كإهلالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «هل سُقْتَ من هَدْيٍ؟»، قلتُ: لا. قال: «طُفْ بالبيتِ، وبالصَّفا والمروةِ، ثم حِلَّ» ... الحديث. وقد سُئل عنه ابن المديني -كما سيأتي عند الحديث رقم (٣٢٠) -، فقال: هذا إسناد حسن. أفيصح بعد هذا أن يقال بأن ابن المديني أراد الغرابة، والحديث في «الصحيحين»؟! ٢ - وسُئل ابن المديني -أيضًا- عن حديث علي الآتي (١/ ٣٠٠): أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذ حريرًا فجعله في يمينه، وذهبًا في شماله، ثم رفع يده، وقال: «هذان حرامٌ على ذُكُورِ أُمَّتي»، فقال: حديث حسن، رجاله معروفون. وهذا تحسين بالمعنى الاصطلاحي؛ لأنه أردفه بقوله: رجاله معروفون. ٣ - وقال ابن أبي حاتم في «العلل» (٢/ ٥٠ رقم ١٦٣٦): سَمِعتُ أبا زرعة، وذكر حديث المِقدام بن معدي كرب، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «الخال وارث من لا وارث له»، فقال: هو حديث حسن. قال له الفضل الصَّائغ: أبو عامر الهَوْزَني مَن هو؟ قال: معروف، روى عنه راشد بن سعد، لا بأس به. وهذا ـ أيضًا ـ تحسين بالمعنى الاصطلاحي؛ لأنه عقَّبه بتقوية حال الهَوْزَني. ٤ - وأخرج الترمذي في «العلل الكبير» (ص ١٦١ رقم ٢٧٣) من طريق عبد الله بن جعفر المخرَمي، عن عثمان بن محمد، عن المَقْبري، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله المحلِّلَ والمحلَّلَ له»، ثم قال: سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن، وعبد الله بن جعفر المخرَمي صدوق ثقة، وعثمان بن محمد الأخنسي ثقة، وكنت أظن أن عثمان لم يَسْمع من سعيد المَقْبري. وهذا -أيضًا- تحسين بالمعنى الاصطلاحي؛ لأنه عقَّبه بتوثيق رواته. وجوَّد إسناده ابن تيمية في «بيان الدليل على بطلان التحليل» (ص ٣٩٦). ٥ - وأخرج الدارقطني في «سننه» (٣/ ١٧٢) حديثًا من رواية أبي عُبيدة، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: دية الخطأ خمسة أخماس، عشرون حِقَّة، وعشرون جَذَعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنو لبون ذكور. ثم قال: وهذا إسناد حسن، ورواته ثقات، وقد روي عن علقمة، عن عبد الله، نحوه. فهؤلاء خمسة من الحفاظ استعملوا مصطلح الحسن بمعناه الاصطلاحي، وهذا كافٍ في إبطال دعوى أن المتقدمين لا يعنون بمصطلح الحسن إلا الغرابة، ومن أراد المزيد فليطالع كتب العلل.