قال الفرزدق:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان " (١)
قال أبو سعيد: ل (من) لفظ ومعنى، فأمّا لفظها فواحد مذكّر، فإذا رددت إليها الضمير العائد من صلتها أو خبرها أو غير ذلك كان واحدا مذكّرا أردت بها واحدا أو اثنين أو جماعة أو مؤنثا، فإن أردت أن يكون العائد إليها على معناها
فهو على ما يقصده المتكلّم من المعنى.
فأمّا ما أعيد إليه على معناه في الجمع فقوله عز وجلّ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ (٢)، وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ (٣)، وأكثر ما في القرآن من هذا النحو فتوحيد لفظ المذكّر كنحو قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ (٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ (٥) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ (٦) وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ (٧) وغير ذلك مما يطول.
وأمّا المثنى فقول الفرزدق:
... من يا ذئب يصطحبان
يريد بمن نفسه والذئب، وأمّا المؤنث فقوله: ومن تقنت منكن لله ورسوله [الأحزاب: ٣١] لأنّ المعنى واحدة من النساء أو أكثر، وربما أتي على اللفظ والمعنى كقوله عز وجل: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً [الأحزاب: ٣١] يقنت بالياء على اللفظ، وتعمل بالتاء على المعنى، وقوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٨) أسلم وجهه على لفظ من ولا خوف عليهم وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على معنى الجماعة.
وذكر بعض الكوفيين: أنه إذا حمل من على المعنى لم يجز أن يردّ إلى اللفظ، وإذا حمل على اللفظ جاز أن يردّ إلى المعنى، ولا فرق بينهما عندي، والذي يبطل ما قال قوله عز وجل في آخر سورة الطلاق: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي
(١) البيت في ديوانه ٨٧٠، ابن يعيش ٢/ ١٣٢؛ الكتاب ٢/ ٤١٦؛ المقتضب ٢/ ٩٥.
(٢) سورة يونس، من الآية: ٤٢.
(٣) سورة الأنبياء، من الآية: ٨٢.
(٤) سورة الأنعام، من الآية: ٢٥.
(٥) سورة يونس، من الآية: ٤٣.
(٦) سورة الطلاق، من الآية: ٢، ٤، ٥.
(٧) سورة التغابن، من الآيتين: ٩، ١١.
(٨) سورة البقرة، من الآية: ١١٢.