للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن كان مبنى الكلام على جحد عقيبه استثناء يرده إلى الإيجاب فهو كالإيجاب كقولك: ما سرت إلا يوما حتى أدخلها، وما سرت إلا قليلا حتى أدخلها، لأنه لا فرق بين قولك: ما سرت إلا يوما، وبين سرت يوما؛ وما سرت إلا قليلا حتى أدخلها بمنزلة: سرت قليلا حتى أدخلها؛ والقليل قد يؤدي إلى الدخول، كما يؤدي الكثير إليه؛ وهذه العوارض التي تعارض المعرفة واليقين لا تغير لفظ الإيجاب كقولك: إنّ زيدا لقائم فيما أرى، وفيما أظن، وإن زيدا لقائم بلغني.

وأما ما حكاه سيبويه عن بعض النحويين من اعتبار القلب فهو ضعيف يخالف كلام العرب، ولا لاعتبار ذلك أصل يرجع إليه؛ هؤلاء القوم أجازوا: سرت حتى أدخلها، ولم يجيزوا: كنت سرت حتى أدخلها، لأنه لا يحسن: سرت حتى

أدخلها كنت، كما يحسن: حتى أدخلها سرت؛ فاحتج عليهم سيبويه بقول العرب: قد سرت حتى أدخلها، وهم لا يجيزون: سرت حتى أدخلها قد، ويقولون: ربما سرت حتى أدخلها، ولا يقولون:

سرت حتى أدخلها ربما؛ واحتج عليهم أيضا بأنه لا فرق بين قولنا: كنت سرت حتى أدخلها وبين: سرت مرة في الزمان الأول حتى أدخلها، وهم يجيزون: سرت مرة في الزمان الأول حتى أدخلها، لأنه يحسن فيه القلب، تقول: سرت حتى أدخلها مرة في الزمان الأول.

وذكر سيبويه: إنما سرت حتى أدخلها، فأجاز الرفع في موضع، ولم يجزه في موضع، وذلك أن (إنما) تكون على وجهين: أحدهما تحقير الشيء، والآخر الاقتصار عليه؛ فأما الاقتصار عليه فقولك في رجل ادّعي له الشجاعة والكرم واليسار، فاعترفت بواحد منها دون الباقي، وأثبته له فقلت: إنما هو موسر أو إنما هو شجاع، فعلى هذا الوجه يرفع الفعل بعد (حتى) إذا قلت إنما سرت حتى أدخلها، لأنك أثبت له المسير، وقد أداه إلى الدخول.

وأما تحقير الشيء فقولك لمن تحقر صنيعا له: إنما تكلمت وسكت، وإنما سرت فقعدت، لم يعتد بكلامه ولا بسيره؛ فعلى هذا الوجه نصب سيبويه: إنما سرت حتى أدخلها، لأنه لم يعتد بسيره سيرا، فصار بمنزلة المنفي.

ويقبح الرفع؛ لأنك لم تجعل السير مؤديا إلى الدخول، فيكون منقطعا بالدخول، وإلا نصبت (يدخل)، فيكون غاية السير، وهذا معنى قوله: ليس في هذا اللفظ دليل على انقطاع السير، يعني إذا رفعت مع التحقير.

فأما أقلّ (ما سرت) فإنه يكون على وجهين: أحدهما أن يريد سيرا قليلا مؤديا

<<  <  ج: ص:  >  >>