الكلمتين، وجعل هذا دليلا على اختلاف الإعرابين، لاختلاف المعنيين ودليلا على اختلاف الإعرابين والمعنى واحد، واتفاق الإعرابين والمعنى واحد، واتفاق الإعرابين والمعنى مختلف، وهذا يذكر عن أبي العباس المبرّد، وكان ينكر الوجه الآخر، وهو أن يقول القائل: إن سيبويه أراد اختلاف الحركتين فقط، ويقول: لم يذهب إليه سيبويه.
قال أبو سعيد: والذي عندي في ذلك أن الذي قصده سيبويه على ما يتوجه القول في صحته- والله أعلم- أنه أراد الإبانة عن هذا المعنى بعينه، لا أنه جعله دليلا على شيء سواء، وذلك أن في الناس من يزعم أنه لا يجيء لفظان مختلفان إلا ومعناهما مختلف، علمناه أو جهلناه، وهو قول جماعة من النحويين، ويحكي هذا عن ثعلب عن ابن
الأعرابي، وإليه كان يذهب ثعلب فيما حكى لي، وعاب قوم من الناس اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، وقالوا: هذا يوقع اللبس، فأراد سيبويه إبانة مذهب العرب، وجعلهم اللفظين مختلفين لمعنى واحد، واللفظين متفقين للمعنيين المختلفين.
فإن قال قائل: لم قلتم إنّ اللفظين قد يجوز أن يختلفا، ويكون معناهما واحدا؟
فإن الجواب في ذلك: إنا رأينا العرب، ربما يتكلم القبيل منهم بلفظ ما لمعنى بعينه، ويتكلم غيرهم بلفظ سواه، لذلك المعنى بعينه، كقول بني تميم:" ثلاث عشرة " وقول أهل الحجاز " ثلاث عشرة "، وكقول بعضهم للطلع " طلع " وبعضهم يقول للطلع بعينه " إغريض "، وأهل المدنية يقولون للزّئبق " زاووق " وغيرهم يقول: " زئبق " لذلك المعنى بعينه، فيما لا يحصى كثرة.
ورأينا العرب بعضهم يأخذ عن بعض، على حسب المخالطة لهم، والإلف لكلامهم، كمثل ما نعرفه من أنفسنا أنّا نتكلّم بلغة من اللغات في وقت، ثم ندعها ونألف غيرها، حتى يكون أكثر كلامنا بغيرها، إمّا أن يكون غيرها أخفّ منها لفظا، وإمّا أن نسمع قوما يتكلمون بها فنألفها على طول السّماع لها.
وليس تخرج اللغة الثانية اللغة الأولى أن تكون في معناها، فكذلك العربية، ومثل ذلك أن أهل العراق يسمّون البرّ " برّا " وأهل مكة يسمونها " حنطة " وأهل مصر يسمونها " القمح "، فلو أن عراقيّا أتى مكة فتكلم " بحنطة " ليفهموا عنه، فألفها، أو كلّم أهل مصر على لغتهم " بقمح " ثم ألف ذلك واعتاده، ما كان يتغيّر " البرّ " عنده عما كان، ولو أن قمحا حمل من مصر إلى مكة، لسمّوه بعينه حنطة، وهذا أبين من أن يطال فيه الكلام.