للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النصب، كالتأويل الذي يتأوّل فيما يخالف آخره أوّله؛ وذلك أنك إذا قالت: " ما تجلس عندنا فنحدّثك " فتأول: ما يكون منك جلوس فحديث منا، غير أن المصدر قد يجوز أن يقع موقعه " أن " الخفيفة وفعل ذلك المصدر، ألا ترى أنك تقول: " يعجبني قيامك "، و " يعجبني أن تقوم " في معناه. وإذ قد وضح هذا فأنت إذا قلت: " ما تجلس عندنا

فنحدّثّك " إنما تنفى جلوسه، ولست بناف للحديث على كل حال، كما نفيت الجلوس، وإنما نقدر في ذلك أحد تقديرين، إما أن يكون على معنى قولك: " ما تجلس عندنا فكيف نحدّثك " فتكون نافيا للجلوس ومخبرا أن الحديث يتعذر وقوعه مع عدم الجلوس، أو يكون على تقدير: ما تجلس عندنا محدثين لك، وقد تجلس عندنا على غير حديث بيننا فتكون نافيا للجلوس الذي يقرن به الحديث، ولم تعمد لنفي الحديث، فلمّا خالف الأول الثاني هذه المخالفة، كرهوا أن يعطفوا الثاني على الأول في لفظه، فيكون داخلا في معناه؛ لأنك إذا قلت: " ما تجلس عندنا فتحدّثنا " فأنت ناف لكل واحد من الجلوس والحديث من غير تعلق أحدهما بالآخر، كما أنك إذا قلت: " ضربت زيدا وعمرا " كنت ضاربا لكل واحد منهما، من غير تعلق أحدهما بالآخر، فلما كان الفعل الثاني في " ما " جوابا تضمن معنى يخالف الأول، وإن كان معطوفا عليه في المعنى، فقدّر الأول تقدير المصدر، كأنه قال:

ما يكون منك جلوس، وقدر في الثاني " أن " فنصب بها الفعل، ثم كره أن يكون الأول في لفظ الفعل، والثاني يقترن به ما يصيره اسما وهو " أن "، فحذفت " أن " ليشاكل الأول الثاني في الفعلية، ولم يبطل النصب الذي أثّرته " أن "؛ لئلا يدخل الثاني فيما دخل فيه الأوّل، فإذا اضطر الشاعر في المتّفقين، ردّه إلى التقدير الذي يوجب النصب هنا.

ومثل هذا قول طرفة:

لنا هضبة لا ينزل الذّلّ وسطها ... ويأوي إليها المستجير فيعصما (١)

والوجه فيعصم. وقال الآخر:

هنالك لا تجزونني عند ذاكم ... ولكن سيجزيني الإله فيعقبا (٢)


(١) البيت في ديوانه ١٥٩، وسيبويه ١/ ٤٢٣، واللسان (دلك).
(٢) البيت للأعشى في ديوانه ص ٩، وسيبويه ١/ ٤٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>