بعد أن سمع منه الحديث الأول فسمع المنسوخ والناسخ، ولم ينصف هذا القائل، فإن هذا الحديث الذي زعم أنه ناسخ هو من جملة ما لا عبرة به.
وقد روى حديث مس الذكر في باب نقض الطهارة عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وزيد بن خالد الجهنى وأبي هريرة، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وعن عائشة وأم حبيبة وبسرة- رضي الله عنهم، وفي إسناد سائرها مقال إلا في إسناد حديث بسرة فإنه حديث حسن، وحديث طلق أيضا حديث حسن.
وقد ذكر الخطابى في كتاب (معالم السنن) أن أحمد بن حنبل كان يرى الوضوء من مس الذكر، وكان ابن معين يرى خلاف ذلك؛ فتذاكرا وتكلما في الأخبار التي رويت في هذا الباب؛ فكان عاقبة أمرهما أن اتفقا على سقوط الاحتجاج بالخبرين معا- حديث طلق وحديث بسرة- ثم صارا إلى الآثار التي رويت عن الصحابة.
قلت: فهما الرجلان لا يدرك شأوهما في معرفة الحديث ورجاله وطرقه، وفي اتفاقهما على إسقاط الاحتجاج بالخبرين دليل ظاهر على أن لا سبيل إلى معرفة الناسخ والمنسوخ منهما، وعلى أنهما متقاربان في السند لا مزية لأحدهما على الآخر، وعلى أن ما عدا هذين الحديثين لم يثبت ثبوتا معتدا به عندهما.
وأما الآثار التي رويت في هذا الباب، فقد نقل عن بعض الصحابة ما يؤيد حديث بسرة، منهم: سعد بن أبي وقاص وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة- رضي الله عنهم، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد، وروى خلاف ذلك عن جمع من الصحابة، منهم: على بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وعمران بن حصين رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد أخذ أبو حنيفة وأصحابة بحديث طلق ترجيحا لرواية الرجال على النساء، ولما يؤيده النظر، وبه يقول الثورى أبو سعيد، وكان مالك يذهب إلى أن الأمر بالوضوء من مس الذكر على الاستحباب لا على الإيجاب.
قلت: ويؤيد ذلك ما ورد في [٤٣/أ] الحديث (من مس ذكره أو أنثييه أو رفغه فليتوضأ)، ولا سبيل في الوضوء عن مس الرفغ وهو أصل الفخذ، إلا أن يحمل على الاستحباب لانعدام القول بوجوبه إجماعا، ولو قيل المراد منه غسل اليد فهو يحتمل كما في قوله (الوضوء قبل الطعام) فكل ذلك حسن لما فيه من الجمع بين الحديثين، ولكل متمسك فيما ذهب إليه، وإنما أطنبنا القول فيه توقيفا للطالبين على معالم علم الحديث أولا وتنبيها لهم على محل النظر [لنفى] الخلاف ثانيا. والله أعلم.