والنزول من الأعلى إلى الأدنى في هذا الباب عند التمثيل وتقرير المعنى من أحمد طرق البلاغة وأبهج مناهج اليان. وكان في قول من ذهب في ذلك إلى ابتغاء التقرب إلى الله تعالى بتلك الرائحة واستحباب استدامتها وكراهة إزالتها بالسواك تعمقا وعدولا عن الجلى الواضح إلى الخفي المشكل، لا سيما وقد أزيل الخفاء بحديث عامر بن ربيعة (رضي الله عنه)(رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يني يتسوك وهو صائم).
وفيه (والصيام جنة) الجنة: السترة. يقال استجن بجنة: أي تستر بسترة. ويقال لما يستجن به في الحرب من درع وترس جنة. وذكر أنه جنة لأن المسلم يتستر به من شكة الشيطان وشوكته، والجنة إنما يكمل الانتفاع بها إذا كانت محكمة ومسرودة في غير اختلال، وكذلك الصيام إنما يحق التستر به على حسب العناية به من التحفظ والإتقان والتنزه عن الخطأ والخطل فيهما، فإذا وجد فيه بعض الخلل نقص بحصته ثواب العمل. وبهذا المعنى ترتب عليه قوله (وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب) الرفث الفحش من القول وما يضاهيه من كنايات الجماع والصخب: الصياح والجلبة. وقوله:(فليقل إني صائم) أي يجعل قوله هذا مكان الجواب ليكون أبلغ في الردع المتناول لغرضه وأكد في الحجة عليه. وفيه وجه آخر وهو أن يقول قوله في نفسه لترتدع به نفسه عن سييء القول وتتقوى على كظم الغيظ.
من باب رؤية الهلال
(من الصحاح)
[١٣٤٣] قوله (- صلى الله عليه وسلم -) في حديث ابن عمر- رضي الله عنه:(فإن غم عليكم فاقدروا له) غم: أي غطى من قولك غممت الشيء إذ غطيته فهو مغموم. فاقدروا له: من قدرت الشيء أقدره وأقدره قدرا من التقدير.
قال الشاعر:[١٥٨/ب]
كلا ثقلينا طامع في غنيمة .... وقد قدر الرحمن ما هو قادر
أي: مقدر.
ومعني الحديث: قدروا له عدد الشهر حتى تتموه ثلاثين، وذلك في الراوية الأخرى عن ابن عمر:(إن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) ولما في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)، وقال بعض أهل العلم: قدروا له منازل القمر، فإن ذلكم يدلكم على أن الشهر تسعة وعشرون أو ثلاثون.
قال ابن سريج: هذا خطاب لمن خصه الله تعالي بهذا العلم، وقوله:(فأكملوا العدة ثلاثين)، خطاب للعانة التي لم تعن به؛ يقال: قدرت الأمر كذا أقدر وأقدر إذا نظرت فيه ودبرته.