[١٣٤٠] ومنه حديثه الآخر عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) رواية عن ربه (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) تكلم على هذا الحديث بعض العلماء ومعنى كلامه وزبدته: أن الصائم يعرض البدن للنقصان، فإن الله تعالي جعل الأبدان على أن تكون دائمة التحلل بالبخارات المتصاعدة عن المسام بالعرق والتنفس وغير ذلك فهي مفتقرة بحسب ذلك إلى البدل، وإذا احتبس عنها البدل أفضي بها ذلك النهكة والنحول، فصار بذلك معرضا نفسه للتلف مما يصيبه من مضض الجوع وحرقة العطش، فالصائم إذا أثر ذلك مستسلما لربه منشرح الصدر به صار عمله أخص الأعمال وأولاها بالله.
قلت: وفيه وجه آخر أن شرائع الإسلام وأركانه ما منها شيء إلا ويطلع العباد على صيغة آدائه غير الصوم فإنه يعامل الله بأدائه سرا ولا يتأتى ذلك إيمانا واحتسابا إلا بالإخلاص التام، فبهذا المعني كان أولى الأعمال بحسن القبول وتضعيف الجزاء.
وأما قوله (فأنا أجزى به) أي: أنا العالم بجزائه وليس ذلك مما ذكر أن الحسنة بعشر أمثالها ومما فوق ذلك من العدد فإن جزاء الصوم يجل عن تلك المقادير كلها فأنا أعلم به وإلى أمره.
وفيه قوله (- صلى الله عليه وسلم -): (للصائم فرحتان فرحة عند إفطاره) يعنى: فرحة بالخروج عن عهدة المأمور. وقيل بما يعتقده من وجوب الثواب، وفرحة يوم القيامة مما يصل إليه منه، وقيل فرحة عند إفطاره مما جاء في الحديث من أن (للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) خلف فم الصائم خلوفا إذا تغيرت رائحته، ذهب أهل المعاني إلى أن معناه تنزيه ما حدث من حكم الله بالصوم عن الأذى، بخلاف الخلوف الذي يحدث عن غير الصوم فيومر بإزالته بالسواك ولكنه في حكم الطيب الذي يستدام. وأرى فيه وجها [١٥٨/أ] آخر وهو أن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) لما أراد أن يبين فضل الصوم ودرجة الصائم ضرب مثله ما يكره منه من الرائحة في الطباع البشرية بأطيب ما يرام ويستنشق من الروائح،