للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(ومن الحسان)

[٣٧٧٤] حديث أبي مالك الأشعري- رضي الله عنه- قال: (كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن لله عباداً بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ...) الحديث.

الغبطة: أن يتمنى الإنسان مثل حال المغبوط من غير أن يريد زوالها عنه، وهي في الحقيقة عبارة عن حسن الحال، ومنه قولهم: اللهم غبطاً لا هبطاً، أي: نسألك الغبطة ونعوذ بك أن نهبط.

فإن قيل: على أي وجه نتصور ذلك في أنفسنا، وقد عرفنا من أصل الدين أن المؤمن المستعد لثواب الله في الدار الآخرة معصوم عن الحرة والتلهف والتطلع إلى ما ليس له، والغبطة لا تخلو عن شيء من ذلك؟.

قلنا: مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك بيان فضل المتحابين وأن الله يحلهم من الكرامة محلاً يقع ممن فوقهم في المنزلة بمحل الشيء المغبوط به؛ لأن النفوس الصالحة المستعدة لنيل ثواب الله [لا] يبقى فيها تنازع وتطلع إلى ما ليس لها، ولا ينبغي لها من المرتبة.

فإن قيل: فهل يلزم من ذلك أن المغبوطين ينالون من المرتبة ما لا يناله ذوو الغبطة؟ قلنا: لا، ونظير ذلك الرجل له من المماليك ألف، ولآخر واحد، وصاحب الألف يريد أن لو كان له مثل ذلك الواحد أيضاً، فلا يلزم من ذلك أن صاحب الفرد أتم غنى من صاحب الألف.

فإذا قيل: فلم لم يؤت الأنبياء والشهداء مثل ما أوتي أولئك؟

قلنا: أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقدر تقديراً يبين به مقدار تلك الفضيلة فقد ذلك في فئتين اختارهم الله بفضله، وأكرمهم برحمته.

فأما الشهداء فيقدر فيهم أن المرادين بذلك هو الذين- وإن- بلغوا رتبة الشهادة فإنهم لم يعاملوا الله سبحانه بتلك المعاملة، فلما وردوا القيامة، ورأوا قربهم من الله أحبوا أن لو أنهم عاملوا الله بمثل معاملتهم، وذلك لأن التحاب في الله غير ذلك، وهو أنهم أحبوا الاتباع دون ما أحبوا هم؛ فكان قسط الأتباع في [١٦٠/أ] حبهم في الله إياهم أوفى وأوفر من قسط الأنبياء. وذلك لأن التحاب في الله إنما يقع على قدر المنزلة والقرب من الله، ولما كان الأنبياء أحب إلى الله من الأتباع، لم يكن للأنبياء أن يتعدوا سنة الله فيهم، بل وجب عليهم أن يحبوا أنفسهم في موافقة الحق سبحانه فوق ما يحبون أنفس الأتباع، وعلى الأتباع أن يحبوهم فوق ما يحبون أنفسهم، فصار قسطهم من هذه المنزلة أوفى وأوفر من قسط الأنبياء

<<  <  ج: ص:  >  >>