المتدارك الذي يسمع ولا يفهم منه شيء، تنبيها على أنباءها ترد على القلب في لبسة الجلال، وأبهة الكبرياء، فيأخذ هيبة الخطاب عند ورودها بمجامع القلب ويلاقي من ثقل القول ما لا علم له بالقول، مع وجود ذلك، فإذا سري عنه وجد القول المنزل بينا ملقى في الروع، واقعا وقع المسموع، وهذا معنى قوله:(فيفصم عني وقد وعيت) ومعنى [٣٠٢] يفصم: أي يقلع عني كرب الوحي؛ شبهه بالحمى إذا فصمت عن المحموم؛ يقال: أفصم المطر أي أقلع، وهذا الضرب من الوحي شبيه بما يوحى إلى الملائكة؛ على ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنها سلسلة على صفوان، {إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير}.
هذا وقد تبين لنا من حديث عائشة رضي الله عنها أن الوحي كان يأتيه على صيغتين:
أولاهما أشد من الأخرى؛ وذلك بأنه كان يرد فيها من الطباع البشرية إلى الأوضاع الملكية، فيوحى إليه كما يوحى إلى الملائكة، على ما ذكر في حديث أبي هريرة، وهو حديث حسن صحيح.
والأخرى يرد فيها الملك إلى شكل البشر وشاكلته، وكانت هذه أيسر، والله أعلم.
وفيه: (وإن جبيته ليتفصد عرقا) أي: يسيل؛ يقال: انفصد الشيء وتفصد: إذا سال؛ كأنه شبه بالعرق المفصود، إذا سال عنه الدم.
[٤٤٢٢] ومنه قول عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- في حديثه:(إذا أنزل عليه الوحي كرب لذلك): يحتمل أنه كان يهتم بأمر الوحي أشد الاهتمام ويهاب مما يطالب به من حقوق العبودة والقيام بشكر المنعم، ويخشى على عصاة الأمة أن ينالهم من الله خزي ونكال؛ فيأخذه الغم الذي يأخذ بالنفس حتى يعلم ما يقضى إليه.
ويحتمل أن المراد منه كرب الوحي وشدته؛ فإن الأصل في الكرب الشدة، وإنما قال الصحابي:(كرب) لما وجد من شبه حاله بحال المكروب.
وقوله:(تربد وجهه) أي تغير، وأكثر ما يقال ذلك في التغير من الغضب، وتربد الرجل أي: تعبس. وفيه:(فلما أتلى عليه رفع رأسه) كذا هو في المصابيح، وأرى صوابه:(فلما تلي عليه)؛ من التلاوة؛ وإن كان (أتلي عليه) محققا فمعناه: أحيل، يقال: أتليته أي أحلته؛ أي: أحيل عليه البلاغ، وذلك أن الملك إذا قضى إليه ما أنزل به فقد أحال عليه البلاغ.