كوجوبها على الصحيح، ومن يرى ذلك فإنه [١٠١/ب] يجعله بمنزلة اليسير الذي لا يهتدي إلى السبيل، وقد عارض هذا الحديث حديث عتبان بن مالك الأنصاري، وهو حديث صحيح وفيه أنه قال: يا رسول الله إني قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم ولم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي لهم، فوددت أنك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأتي فتصلي في مصلى فأتخذه مصلى قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأفعل إن شاء الله .. الحديث، وبهذا الحديث تمسك من رأى خلاف القول الأول وليس قصدنا في بيان ذلك المناضلة عن أحد الفريقين فإن العلماء الذين أفضى بهم اجتهادهم إلى هذا الخلاف لأغنياء بوفور علمهم، ودقة نظرهم عن تصدي أمثالنا للذب عنهم وإنما القصد طلب التوفيق ونفي التضاد عن الحديثين على ما تكفلنا به ما أمكننا. فنقول التوفيق بينهما إنما يتيسر من وجهين:
أحدهما: أن نقول إنما رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعتبان أن يصلي في بيته؛ لأنه ذكر أن السبيل يحول بينه وبين مسجد قومه فلا يستطيع أن يعبر الوادي وهذا حكم يستوي فيه الصحيح والضرير ولو كان عتبان متعللا بإنكار البصر لم يفتقر إلى التعلل بوقوع الأمطار وسيلانها في الوادي.
والآخر: أن نقول أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم محتمل للوجوب ومحتمل للندب والاستحباب، وقد نظرنا في هذا الحديث وصيغته واختلاف طرقه وما يعارضه من حديث عتبان فرأينا حمله على الاستحباب أوجه فمن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرف قوله عن قاعدة الجواب، حيث سأله أن يرخص له، فقال: هل تسمع النداء؟ ولم يصرح له بعدم الرخصة.
وفي غير هذه الرواية أنه قال فهل لي من عذر؟ قال: هل تسمع النداء؟ وكان من صريح القول أنه يقول ما لك رخصة أو ما أشبه ذلك فلم يرد الجواب على وتيرة السؤال بل قال: فأتها.
وقد روى مسلم هذا الحديث في كتابه ولفظه (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال: هل تسمع النداء بالصلاة، قال: نعم: قال: فأجب).
قلت: فوجه ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نبأ ابن أم مكتوم بالرخصة في أول الأمر [١٠٢/أ] ثم دعاه إلى العزيمة نظرا له واختيارا للأصلح وإرشادا إلى ما هو الأليق بحاله وزمانه، فقد كان هو من فضلاء المهاجرين والسابقين الأولين وكان لا يرغب يومئذ عن إدراك فضيلة الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مغموص عليه بالنفاق أو جاهل بما له في ذلك أو عاجز عن الحضور.
وقد أشار مسلم في كتابه إلى تعليل هذا الحديث بإيراد حديث ابن مسعود بعده هو- رحمه الله- حسن السياق للأحاديث مبين لعللها في مدارج الترتيب فروى بإسناده عن ابن مسعود أنه قال:(لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة). قلت: فلما ذكرناه من الوجوه لم يقتصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في جوابه على الرخصة بل كشف له عنها