للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بهذا القول وأشباهه أقواماً يعرفون صرف الكلام وفصل الخطاب ويفهمون مواقع من اللهجة العربية بعد أن شملتهم بركة الصحبة فألهموا الصواب وقد علموا أن الله تعالى منزه عن النقائص والعوارض والحوادث فلا يعتريه الملال ولا تعتوره الأحوال، وقد سلك سبيلهم العلماء الراسخون وبينوا للناس ما أشكل عليهم من ذلك وقد تكلم جمع منهم في معنى هذا الحديث واستحرجوه على وجوه قابلة للاحتمال، ووقع الاختيار منها على وجهين فيما نرى أحدهما: أن الله لا يمل أبداً وإن مللتم وذلك نظير قولهم فلان لا ينقطع حتى ينقطع خصمه أي لا ينقطع بعد انقطاع خصمه بل يكون على ما كان عليه قبل ذلك؛ لأنه لو انقطع على عقب من انقطاع خصمه لم يظهر له بهذا القول مزية ولم يثبت فضيلة، وعلى هذا المعنى قول الشنفري:

صليت مني هذيل بحزق .... لا يمل الشر حتى يملوا

والوجه الآخر - هو أجودهما: أن نقول ذكر الملال فيما أسند إلى الله تعالى على طريق الازدواج، والعرب تفعل ذلك في معارضة الفعل بالفعل فتذكر إحدى اللفظتين موافقة للأخرى وإن خالفتها في المعنى وله في التنزيل نظائر منها قوله تعالى: {يخادعون الله وهو خادعهم} وقوله {فيسخرون منهم سخر الله منهم} وقوله {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [١١١/ب] وقوله {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} وقوله: {نسوا الله فنسيهم}.

قال الشاعر:

ألا لا يجهلن أحد علينا .... فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ومن المستبعد أن يفخر ذو عقل بجهل، وإنما أراد فنجازيه بجهله ونعاقبه على سوء صنيعه، ومعنى الحديث لا يغرض الله عن العبد إعراض الملوك عن الشيء حتى يمل هو عن القيام بطاعة الله ويمتحن بالإعراض عن خدمته.

[٨٥١] ومنه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - ? (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، الدين الطاعة والجزاء، وقد استعير للشريعة اعتباراً بالطاعة والانقياد، والمعنى أن دين الله

<<  <  ج: ص:  >  >>