الله عنها- حديثه هذا، فقالت: وهل ابن عمر، وفي رواية:(رحم الله أبا عبد الرحمن، سمع شيئاً، فلم يحفظ، إنما مرت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة يهودي وهم يبكون عليه، فقال: أنتم تبكون، وإنه ليعذب)، وفي حديث عائشة- رضي الله عنها-: (حسبكم والقرآن): {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فاطر:١٨.
وقد ذهب بعض الناس في ذلك إلى ما ذهبت إليه.
ولا سبيل إلى دفع الحديث بهذا الاحتمال؛ فإن هذا الحديث رواه عمر، وابن عمر، والمغير بن شعبة رضي الله عنهم، ولم يذكر أحد منهم حديث اليهودي أو اليهودية، وقد صح أسانيدها أفصح أن حديثهم غير حديث عائشة، والرواية إذا ثبتت، وجب قبولها، ثم حملها على ما لا يلزم منه تضاد واختلاف في أصول الدين، وإذ قد علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى عند موت ابنه إبراهيم، وعند كثير من ذويه وصحابته-: علمنا أن انهمال العين لا يدخل في باب البكاء المذموم؛ كيف وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا- وأشار إلى لسانه- أو يرحم) وقد روى ابن عباس، عن عمر- رضي الله عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وإن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه).
فتبين لنا من هذه الأحاديث- ومما ورد في معناها-: أن ما لا يحمد من البكاء ويعذب عليه: هو [التفجع] المتعارف بينهم فيما سلف من أمر الجاهلية؛ فإنهم كانوا يجتمعون للمأتم، ويعظمون أمر الرزية، ويقطعون شأن الفجيعة، ويتناوحون، ويذكرون مآثر الميت، ويحمدونه على خلال لا محمدة دونها، ويذمون الدهر، وكل ذلك منهي عنه في الشرع، وقد علمنا من قوله سبحانه:{ولا تزر وازرة وزر أخرى}: أن الميت لم يعذب عليه إلا بعد أن كان يرضى بذلك ويختاره، ويوصي به، وكان ذلك من صنيع أهل الجاهلية، وشواهده موجودة في أشعارهم، وفي مثل ذلك يقول قائلهم:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله .... وشقي علي الجيب يا أم معبد
والحديث محتمل لوجه آخر، وهو أن نقول: أراد بـ (الميت): الذي أشرف على الموت؛ كقوله:(لقنوا موتاكم)، ويكون البكاء عليه نفس العذاب لا سبباً للعذاب، والمعنى: أنه إذا حضره الموت، فصرخوا عليه، وأظهروا الجزع دونه، وهو في كرب الموت- صار صنيعهم ذلك زيادة على كربه؛ فيقع ذلك منه موقع التعذيب، وقد روى مسلم بإسناده، عن أنس- رضي الله عنه- أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-[١٣٦/أ] لما طعن، عولت عليه حفصة- رضي الله عنهما- فقال: يا حفصة، أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(المعول عليه يعذب)؟! وعول عليه صهيب، فقال عمر- رضي الله عنه-: يا صهيب، أما علمت، أن المعول عليه يعذب. وفي هذا الحديث نوع من الاستشهاد على التأويل الذي ذكرناه.