فظاهر الحديث يبين قوله، وإن أراد أنه محرم على الأمة ففيه نظر، وأني يسمع القول بتحريمه، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة:(فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال؛ واصل بهم يوما، ثم يومًا، ثم رأوا الهلال، فقال: لو تأخرت لزدتم، كالمنكل بهم، حين أبى أن ينتهوا، والحديث يدل على خلاف ذلك، وهو أن الوصال كان محرمًا، لو لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليواصل بهم، ولم يكن الصحابة، وهم أشدّ
الناس انتهاء عما حرم عليهم، ليأبوا عن الانتهاء عنه.
فالوجه أن نقول: إنَّ القوم قد علموا أنه نهاهم عن ذلك شفقة عليهم ورحمة، فظنوا أن صنيعهم ذلك قرية إلى الله - تعالى- ولا مدخل له في خلاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - - وذلك مثل الرجل يأتي ليعين الرجل على حمله او دابته، فيقول له: لا تفعل، إكرامًا له وشفقة عليه، فيأبى صاحبه إلا ان يفعل ذلك، فواصل بهم تأديبًا لهم وتقويمًا، وإرشادا إلي ما هو الأسد والأمثل، ثم إنا نقول: إن النهى وإن تعلق
بالعموم، للمعاني التي ذكرناها؛ فإن الخصوص إذا اظاهر عليها، ورأوا حالهم فيها بخلاف حال غيرهم، فلهم أن يواصلوا، والفوج الذي نقل عنهم الوصال من خواص الأمة وأقويائها، مع علمهم بالسنن والأحكام وتشددهم في اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إنما شرعوا فيما شرعوا استيثاقًا بما أشرفنا إليه.
وقد ذكر عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه كان يواصل، وقد صح عن ابن الزبير - رضي الله عنه - أنه كان يواصل سبعًا، ولم يبلغنا نكير عمن كان في زمانه من الصحابة. والظن بأولئك السادة أن المباشر لم يباشر إلا وعنده أسوة، والساكت عنه لم يسكت إلا وقد صوب سبيله، ولهذا نظائر في الحديث، منها ما ذكرنا، ومنها ما تذكر طرفًا منه.
والقضية الأخرى: قوله: (إني أبيت أطعم وأسقى) ويحتمل أن يكون يؤتى على الحقيقة بطعام وشراب يطعمها، فيكون ذلك خصيصي وكرامة لا يشركه فيها أحد من أصحابه.
قلت: ونحن لا نستبعد من فضل الله وقدرته أن يؤتى هذه الكرامة من آثر هديه، واقتفى أثره، فكيف وهو المخصوص بالآيات التي تتحير الألباب دون سطوعها، ولكننا نقول: إن هذا الاحتمال يأباه قضية الحال؛ وذلك أنه ثبت بالأحاديث الصحاح، كحديث أبي هريرة هذا، وحديث أنس [١٦١/ب] وأبي سعيد وغيرهم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواصل مع ما تبين لنا من جوابه - حين قالوا:(إنك تواصل) - أنه كان يواصل، فكيف سيصح القول بالوصال مع الطعام والشراب، وسيان الحالان في تناولهما، ان يؤتي بهما
عن طريق القدرة، أو من طريق الحكمة.
(ومن الحسان)[١٣٥٩] حديث حفصة - رضي الله عنه- (من لم يجمع الصيام من الليل ... الحديث). لم يجمع،