للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله (كان يصوم من غزة كل شهر ثلاثة ايام)، أن نقول: إنه وجد الأمر على ذلك في غالب ما اطلع عليه من حال النبي فحدث بما كان يعرف من ذلك، واطلعت عائشة - رضي الله عنها- من ذلك على ما لم يطلع هو عليه، فحدثت بما علمت، ولا تناقض بين الأمرين.

وأما قوله: (وقلما كان يفطر يوم الجمعة).

فالوجه فيه أن نقول: لا يلزم من قوله هذا أنه كان يختص يوم الجمعة بالصوم حتى يخالف حديث أبي هريرة وحديث غيره في النهى؛ بل كان يصوم منضمًا إلى ما قبله أو إلى ما بعده ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن نقول: يجوز أن يراد بالإفطار بعد الإمساك في بعض النهار؛ فإن الصوم قد يطلق ويراد به الإمساك في بعض النهار، ويؤيد هذا التأويل قول سهل بن سعد الساعدي: (ما كنا تقيل ولا نتغدى إلا عد الجمعة).

وقد سئلت عن وجه النهي عن صوم يوم الجمعة منفردًا، فأعلمنا الفكر فيه مستعينًا بالله سبحانه، فرأينا الشارع - صلوات الله عليه- لو يكره ان يصام منضما إلى غيره، وكره أن يصام وحده؛ فعلمنا أن علة النهي ليست للتقوى على اتيان [١٦٥/أ] الجمعة، وأقام الصلاة والذكر، كما رآه بعض الناس إذ لا ميزة في هذا المعنى بين من صام الجمعة وحده، وبين من صام الجمعة والسبت، فعلمت أنه لمعنى آخر وذلك المعنى والله أعلم لا يخلو من أحد الوجهين على ما يستبين لنا: أحدهما: أن نقول كره تعظيمنا يوم الجمعة باختصاصه بالصوم؛ لأن اليهود يرون اختصاص السبت بالصوم تعظيمًا له، ولما كان موقع الجمعة في هذه الأمة موقع أحد اليومين من إحدى الطائفتين أحب أن يخالف هدينا هديهم فلم يشأ أن يخصه بالصوم.

والآخر: أن نقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وجد الله سبحانه وتعالى قد استأثر الجمعة بفضائل لم يستأثر به غيره من الأيام على ما ورد في احاديث الصحاح، وجعل فيه للصلاة فرضًا مفروضًا على العباد في البلاد ثم غفر لهم ما اجترحوه من الآثام من الجمعة إلى الجمعة وفضل ثلاثة أيام، ولم نر في باب فضيلة الأيام مزيدًا على ما خص الله به الجمعة، فلم تر أن نخصه بشيء سوى ما خصه الله به، ثم إن

الأيام والشهور فضل بعضها على بعض، ثم خص بعضها بعمل دون ما خص به غيره ليخص كل منها بنوع من العمل، ولو شرع جماع تلك الوسائل في يوم واحد أو شهر واحد لأقضى ذلك إما إلى الارتهان به وإما إلى تعطيل ما دونه، ومنهما ينشأ داعية الإفراط والتفريط، فلما وجد الجمعة مخصوصة بتلك الفضيلة العظمى، ورأى الاثنين والخميس أفضل الأسبوع سوى الجمعة لاختصاص الاثنين بولادته وبعثته وهجرته ووفاته، واختصاص الخميس بعرض الأعمال على الله تعالى جعل لهما من باب الفضيلة ما

يمتازان به عن غيرهما فشرع اختصاصهما بالصوم على الإنفراد ليمتازا عن غيرهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>