العلم وذوي النظر في دين الله أن الإنساء الواقع من قبل الله كان رعاية لمصلحة العباد ليُعمَّى عليهم خير تلك الليلة لئلا يتكلوا وليزدادوا جدا واجتهادًا في طلبها. وهذا هو الظاهر من أمره والمفهوم من سياق حديثه وقد قال بعضهم: إن نبي الله كان مجبولاً على أكرم الأخلاق وأحسنها، وقد علم الله منه الرأفة بأمته وعلم أنه لو سئل وعنده علم ذلك عز عليه أن يبخل عليهم بذلك فأنساه. وقال آخرون: لما أرادالله تعميتها أنساها النبي لئلا يكون كاتم علم إذا سئل عنه لم يخبر به. وقد روى عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقسم عليه ليخبرنّه بها حتى أغضبه فقال:(لو أذن [١٦٧ / أ] الله لي أن أخبركم بها لأخبرتكم) فكيف السبيل إلى القول بالتوفيق مع هذا الحديث ومع ما ذكرنا من أقاويل علماء الأمة.
قلنا: التخصيص في ذلك ليس بمتنكر فنقول: أنسيها في أول الأمر ليخبر بالإناء فينتهي العموم عن السؤال عنها لما تضمنه الإنساء من المصالح ثم بينها كرامة له فخص هو بذلك بعض أصحابه المستعدين لعلم ذلك كما خصّ حذيفة بن اليمان بأعلام المنافقين والتخصيص إنما يستنكر في الأحكام والحدود التي تعبد بها المكلفون فأما في الأخبار التي لم يتعبد بها فلا نكير فيها وما أكثر نظائر ذلك في السنة.
فإِن قيل: أفلا يحتمل أن يقال إن تلك الليلة لا توجد على وتيرة واحدة في الأعوام؛ فربما كانت في عام إحدى وعشرين، وربما كانت في آخر ثلاثٍ وعشرين، وعلى هذا إلى تمام الأوتار، ولهذا اختلف فيها أقاويل الصحابة؟
قلنا: يحتمل، وإليه ذهب بعض أهل العلم، غير أنا لم نجد أحدًا من المخبرين عزم فيما حدث به إلا أبيّا - رضي الله عنه - فإن قيل: فإنه ذهب أيضًا إلى ما ذهب بنوع من الاستدلال غير مبدٍ بصريح المقال؛ لأنه سئل فقيل له: بأي شيء تقول ذلك؟ قال: بالعلامة التي أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث).
قلنا: يحمل أمره في ذلك على أنه لم يؤذن له في التصريح؛ فعدل عنه إلى التعريض بما سمعه من الوصف الزائد على مقدار الضرورة وإنما نميل إلى هذا القول؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - هم الأمناء في سائر ما حدثوا به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد شهد التنزيل بصدقهم وعدالتهم، وبأن الله - سبحانه وتعالى - ارتضاهم لهذا الدين فلا يجوز لنا أن نظن لهم أن يحلفوا على القطع بما لم يعلموا، فضلاً عن الحكم به. فهذا الذي ذكرناه في هذا الباب هو السبيل في تخريج معاني أحاديث ليلة القدر وتمهيد قواعدها. والله أعلم.
[١٤٣٩] ومنه: حديث عائشة - رضي الله عنها - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر شدّ مئزره) المئزر: