وثانيهما: الانتصار للحقّ بالخوض في أمور يستلزم الخوض فيها الشكوك والحيرة والبدعة لما في تلك الأمور من الكلام بغير علم في محار العقول ومواقفها، وقد أوضحت ذلك في (الوهم الثاني عشر) وذكرت أقوال فحول المتكلّمين فيه واعترافهم بذلك فخذه من هنالك، فقد أبطل أهل الحديث بعض النّظر ببعضه كما فعل أهل الكلام في إبطال أنظار خصومهم بأنظارهم، وهذا صحيح عند/ الجميع.
وأمّا الحكاية الني شنّع بها أهل الكلام على المحدّثين من إرسال ملك الرّوم إلى هارون الرّشيد وطلب المناظرة وعجز المحدّث عنها وسخرية أولئك الفلاسفة به فقد كثر الكلام في التبجّح بذلك وبحكاية أخرى تشبهها.
والجوابُ عليهم في ذلك: أنّهم إن أرادوا الاستدلال على أنّهم أجدل من المحدّثين، فذلك مسلّم لهم، بل مسلّم لهم أنهم أجدل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن أرادوا بذلك أنّهم أعلم بالله وأفضل عند الله فليس ذلك يدلّ على هذا، لأنّا نعلم وكلّ عارف أنّه لم يصدر شيء من الكلام ومجادلة الفلاسفة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من جميع أصحابه - رضي الله عنه - ولا اشتغلوا بممارستهم لمماراة أهل اللجاج، وارتياضهم على النّظر في شبه أهل الباطل، وليس يلزم من ذلك أنّهم أقلّ معرفة بالله، ولا أقل نصرة لدين الله, ولو أحبوا الخوض في الكلام واشتغلوا بتعلمه وتعليمه لبلغوا فيه ما أرادوا، وعرفوا ما عرف المتكلّمون وزادوا، وكذلك من اقتدى بهم من أهل السّنة وسائر من اشتغل بالعبادة أو الجهاد، ولكنّهم أعرضوا عن هذا الفنّ إعراض مستغن عنه فارغ