عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيراً، فلم يخض معهم في شيء من أساليب المتكلّمين ودعاهم إلى المباهلة كما ذلك معروف في مواضعه، وهذه الأمور وإن نقل بعضها أو كلّها آحاد فمعناها في الجملة معلوم بالضّرورة لمن طالع السّير والأخبار، وكذلك أصحابه -رضي الله عنهم- ألا ترى إلى قصّة جعفر بن أبي طالب، ومهاجرة الحبشة مع النّجاشي، وما راجعه به خطيبهم جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين قيل للنجاشي: إنّهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً، وكانت النّصارى يعبدون عيسى، ويستعظمون القول بأنه عبدً من عبيد الله، فلمّا سألهم النّجاشي عن ذلك؟ أجابوا بكلام الله تعالى واحتجّوا به على صحّة عقيدتهم، وتلا جعفر على النجاشي صدر سورة مريم، حتّى بكى النّجاشي وأصحابه، وكان ذلك سبب إسلام النّجاشي، وكلّ هذه المحاجّات التي أشرنا إليها لا تصحّ على قواعد المتكلّمين، ولا تنفق في سوق الجدليين، فإنّه لا يصح عندهم الاحتجاج بالقرآن ولا بالمعجز إلاّ على من قد صحّ له وجود الباري تعالى، وأنّه عالم قادر، عدل حكيم صادق، بالأدلّة المحقّقة في علم الكلام، على ماذلك مقرّرً بأدلته في مصنّفاتهم.
والعجب من تشنيعهم على المحدّث الذي أرسله هارون إلى الرّوم فبلغهم ما عنده من دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليت شعري ما الذي أنكروه من ذلك؟ فإن كان المنكر عندهم هو تبليغ كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا نكارة في هذا، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - /يبلّغ عن الله تعالى من غير زيادة استدلال ولا تجديد احتجاج، وإن كان المنكر عندهم كونهم طلبوا منه الحجّة العقلية فلم يأت وعدل إلى ذكر أركان الإسلام، فغير