للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، فالتعبير بـ (عزم الأمور) فيه معنى التشبه بأولي العزم، ولا شك أن التشبه بالكرام فلاح.

يقول البقاعي في ذلك: «الْمَطْلُوبُ فِي الْأَمْر والنهي اللينُ لا الْفَظَاظَةُ وَالْغِلْظَةُ الْحَامِلَانِ عَلَى النُّفُور» (١).

والكبر كما يقول الغزالي هو: «استعظام النفس، ورؤية قدرها فوق قدر الغير» (٢). ومِن علامات الكِبْر والتعالي على الناس: تصْعِيرُ الخدِّ احتقارًا وتنقصًا لهم.

ويجلي الطبري هذا المعنى فيقول: «وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَلَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَمَّنْ كَلَّمْتَهُ تَكَبُّرًا وَاسْتِحْقَارًا لِمَنْ تُكَلِّمُهُ، وَأَصْلُ (الصُّعْرِ) دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا أَوْ رُؤوسِهَا حَتَّى تَلْفِتَ أَعْنَاقَهَا عَنْ رُؤوسِهَا، فَيُشَبَّهُ بِهِ الرَّجُلُ الْمُتَكَبِّرُ عَلَى النَّاسِ (٣).

وتصعير الوجه: فيه معنى الصدود والإعراض، كما يقول مجاهد: {وَلَا تُصَعِّرْ} [لقمان: ١٨] قَالَ: الصُّدُودُ وَالْإِعْرَاضُ بِالْوَجْهِ عَنِ النَّاسِ» (٤). ولقمان يعلم ولده أدب التعامل مع الناس فينهاه عن احتقارهم وازدرائهم والإعراض عنهم، لأنه واحد منهم، فمن السفه أن يستخف بهم ويترفع عنهم بالإعراض ولَيِّ العنق تكبرًا وصدودًا.

وجاء في البُخاريِّ: «لا تُصعِّر: الإعراض بالوجه» (٥). والإعراض بالوجه ليس من مكارم الأخلاق. فدفعًا لكل المفاسد الأخلاقية من الكبر والتعالي، نهى لقمان ولده عن مخاطبة الناس وهو معرض ويؤكد هذ المعنى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فيقول: «{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: ١٨] لَا تَكَلَّمْ وَأَنْتَ مُعْرِضٌ». وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَيَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، وَأَبِي الْجَوْزَاءِ، وَسَعِيدِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَابْنِ يَزِيدَ، وَغَيْرِهِمْ (٦).

وقد يكون الإعراض سببه الحقد والضغينة فيحمله على الكبر والتعالي، كما قال مُجَاهِدٌ: «{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: ١٨] قَالَ: الرَّجُلُ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْحِنَةَ، فَيَرَاهُ فَيُعْرِضُ عَنْهُ» (٧).

ولا شك أن نهي لقمان ولده عن الإعراض عن الناس، دفعًا للتكبر وحثًّا له على التمسك بمحاسن الأخلاق والتواضع للخلق بالإقبال عليهم بوجه طليق، وجانب لين، ووجه منبسط، وفي هذا المعنى يَقُولُ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: ١٨] يَقُولُ: لَا تُعْرِضْ عَنِ النَّاسِ، يَقُولُ: أَقْبِلْ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِكَ وَحُسْنِ خُلُقِكَ (٨).


(١) نظم الدرر (١٥/ ١٧٧).
(٢) إحياء علوم الدين (جـ ٣) (ص ٤٠).
(٣) الطبري (٢٠/ ١٤٤).
(٤) الطبري (٢٠/ ١٤٥)
(٥) صحيح البخاري (٢: ٤٦٦).
(٦) ابن كثير (٦/ ٣٣٩).
(٧) الطبري (٢٠/ ١٤٥).
(٨) الطبري (٢٠/ ١٤٥).

<<  <   >  >>