للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهَذَا الْبَاب من الْأَبْوَاب الَّتِي يكسر بهَا سكور الْفساد، ويهاج بهَا دواهم الْبلَاء، ويعمى الْبَصِير عَن لطيف مَا يُنتهك من الْأُمُور فِي ذَلِك. فَإنَّا قد رَأينَا الْملك الرشيد السعيد الْمَنْصُور المكفي المظفر الحازم فِي الفرضة، الْبَصِير بالعورة، اللَّطِيف للشُّبْهَة، الْمَبْسُوط لَهُ الْعلم والعمر، يجْتَهد فَلَا يعدو إصْلَاح ملكه حَيَاته إِلَّا أَن يتشبه بِهِ متشبه. ورأينا الْملك الْقصير عمره، الْقَرِيبَة مدَّته، إِذا كَانَ سَعْيه بإرسال اللِّسَان بِمَا قَالَ، وَالْيَد بِمَا عملت، بِغَيْر تَدْبِير يدْرك، أفسد جَمِيع مَا قُدم لَهُ من الصّلاح قبله، ويُخلّف المملكة خراباً على من بعده. وَقد علمت أَنكُمْ ستبلون مَعَ الْملك بالأزواج وَالْأَوْلَاد والقرناء والوزراء والأخدان وَالْأَنْصَار وَالْأَصْحَاب والأعوان والمتنصحين والمتقربين والمضحكين والمزينين، وكل هَؤُلَاءِ، إِلَّا قَلِيلا، أَن يَأْخُذ لنَفسِهِ أحب إِلَيْهِ من أَن يعْطى مِنْهَا، وَإِنَّمَا عمله لسوق يَوْمه وحياة غده، فنصيحته الْمُلُوك نصيحة لنَفسِهِ، وَغَايَة الصّلاح عِنْده صَلَاح نَفسه، وَغَايَة الْفساد عِنْده فَسَاد من يَجْعَل نَفسه هِيَ الْعَامَّة، والعامة هِيَ الْخَاصَّة، فَإِن خُص بِنِعْمَة دون النَّاس فَهِيَ عِنْده نعْمَة عَامَّة، وَإِذا عُم النَّاس بالنصر على الْعَدو وَالْعدْل فِي الْبَيْضَة والأمن على الْحَرِيم وَالْحِفْظ للأطراف والرأفة من الْملك والاستقامة من الْملك وَلم يخصص من ذَلِك بِمَا يُرضيه سمى تِلْكَ النِّعْمَة نعْمَة خَاصَّة، ثمَّ أَكثر شكيته الدَّهْر ومذمته الْأُمُور، بقيم للسُّلْطَان سوق الْمَوَدَّة مَا أَقَامَ لَهُ سوق الأرباح، وَلَا يعلم ذَلِك الْوَزير القرين أَن فِي التمَاس الرّيح على السُّلْطَان فَسَاد جَمِيع الْأُمُور. وَقد قَالَ الْأَولونَ منا: " رشاد الْوَالِي خير للرعية من خصب الزَّمَان ". وَاعْلَمُوا أَن الْملك والدّين توأمان، لَا قوام لأَحَدهمَا إِلَّا بِصَاحِبِهِ لِأَن الدّين أس الْملك وعماده، ثمَّ صَار الْملك بعد حارس الدّين، فَلَا بُد للْملك من أسه وَلَا بُد للدّين من حارسه، فَإِن مَا لَا حارس لَهُ ضائع، وَإِن مَا لَا أس لَهُ مهدوم، وَأَن رَأس مَا أَخَاف عَلَيْكُم مبادرة السفلة إيَّاكُمْ إِلَى دراسة الدّين وتأويله والتفقه فِيهِ فتحملكم الثِّقَة بِقُوَّة الْملك على التهاون بهم فَتحدث فِي الدّين رياسات مستسرات فِيمَن قد وترتم وجفوتم وحرمتم وأخفتم وصغّرتم

<<  <  ج: ص:  >  >>