للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من سفلَة النَّاس والرعية وحشو الْعَامَّة. وَلم يجْتَمع رَئِيس فِي الدّين مسر وَرَئِيس فِي الْملك معلن فِي مملكة وَاحِدَة إِلَّا انتزع الرئيس فِي الدّين مَا فِي يَد الرئيس فِي الْملك، لِأَن الدّين أس، والمُلك عماد، وَصَاحب الأس أولى بِجَمِيعِ الْبُنيان من صَاحب الْعِمَاد. وَقد مضى قبلنَا مُلُوك كَانَ الْملك مِنْهُم يتعهد الْجُمْلَة بالتفتيش، وَالْجَمَاعَات بالتفصيل، والفراغ وَكَانُوا بالأشغال، كتعهده جسده بقص فضول الشّعْر وَالظفر، وَغسل الدَّرن والغمر ومداواة مَا ظهر من الأدواء وَمَا بطن. وَقد كَانَ من أُولَئِكَ الْمُلُوك من صِحَة ملكه أحب إِلَيْهِ من صِحَة جسده، وَكَانَ بِمَا يخلّفه من الذّكر الْجَمِيل الْمَحْمُود أفرح وأبهج مِنْهُ بِمَا يسمعهُ بأذنه فِي حَيَاته، فتتابعت تِلْكَ الْأَمْلَاك بذلك كَأَنَّهُمْ ملك وَاحِد، وَكَأن أَرْوَاحهم روح وَاحِدَة، يمكّن أَوَّلهمْ لآخرهم، ويصدّق آخِرهم أَوَّلهمْ، تَجْتَمِع أنباء أسلافهم ومواريث آرائهم وصياغات عُقُولهمْ عِنْد الْبَاقِي مِنْهُم بعدهمْ، فكأنهم جُلُوس مَعَهم يحدثونه، ويشاورونه، حَتَّى كَانَ على رَأس دَارا بن دَارا مَا كَانَ من غَلَبَة الْإِسْكَنْدَر على مَا غلب عَلَيْهِ من مُلكنا، فَكَانَ إفساده أمرّنا، وتفريقه جماعتنا، وتخريبه عمرَان مملكتنا أبلغ لَهُ فِيمَا أَرَادَ من سفك دمائنا، فَلَمَّا أذن الله فِي جمع مملكتنا ودولة أحسابنا كَانَ من ابتعاثة إيانا مَا كَانَ " بِالِاعْتِبَارِ يتّقى العثار " وَمن يخلفنا أوجد للاعتبار منا، لما استدبروا من أَعَاجِيب مَا مرّ علينا. اعلموا أَن سلطانكم إِنَّمَا هُوَ على أجساد الرّعية، وَأَنه لَا سُلْطَان للملوك على الْقُلُوب. وَاعْلَمُوا أَنكُمْ إِن غلبتم النَّاس على مَا فِي أَيْديهم فَلَنْ تغلبوهم على عُقُولهمْ. وَاعْلَمُوا أَن الْعَاقِل المحروم سَالَ عَلَيْكُم لِسَانه، وَهُوَ أقطع سيفيه، وَإِن أَشد مَا يضر بكم من لِسَانه مَا صرف الْحِيلَة فِيهِ إِلَى الدّين، فَكَانَ بِالدّينِ يحْتَج، وللدين فِيمَا يظْهر، يغْضب فَيكون للدّين بكاؤه، وَإِلَيْهِ دعاؤه، ثمَّ هُوَ أوجد للتابعين والمصدقين والمناصحين والموالين والمؤازرين مِنْكُم، لِأَن بغضة النَّاس موكلة بالملوك، ومحبتهم ورحمتهم موكلة بالضعفاء والمغلوبين.

<<  <  ج: ص:  >  >>