وَقد كَانَ من قبلنَا من الْمُلُوك يحتالون لعقول من يحذرون، بتخريبها، فَإِن الْعَاقِل لَا تَنْفَعهُ جودة تجربة إِذا صير عقله خرابا، وَكَانُوا يحتالون للطاعنين بِالدّينِ على الْمُلُوك فيسمونهم بالمبتدعين، فَيكون الدّين هُوَ الَّذِي يقتلهُمْ ويربح الْمُلُوك مِنْهُم. وَلَا يَنْبَغِي للْملك أَن يعْتَرف للعبّاد والنسّاك والمتبتلين أَن يَكُونُوا أولى بِالدّينِ وَلَا أحدب عَلَيْهِ وَلَا أغضب لَهُ مِنْهُ. وَلَا يَنْبَغِي للْملك أَن يدع النسّاك بِغَيْر الْأَمر وَالنَّهْي لَهُم فِي نسكهم وَدينهمْ، فَإِن خُرُوج النساك وَغير النساك من الْأَمر وَالنَّهْي عيب على الْمُلُوك وعيب على المملكة، وثلمة يستبينها النَّاس بَيِّنَة الضَّرَر للْملك وَلمن بعده. وَاعْلَمُوا أَن تصبر الْوَالِي على غير أخدانه وتقريبه غير وزرائه فتح لأبواب مَحْجُوب عَنهُ علمهَا. وَقد قيل: " إِذا استوحش الْوَالِي مِمَّن لم يوطن نَفسه عَلَيْهِ أطبقت عَلَيْهِ ظلم الْجَهَالَة ". وَقيل: " إِن أخوف مَا يكون الْعَامَّة آمن مَا يكون الوزراء ". اعلموا أَن دولتكم تُؤْتى من مكانين: أَحدهمَا، غَلَبَة بعض الْأُمَم الْمُخَالفَة لكم، وَالْآخر فَسَاد دينكُمْ، وَلنْ يزَال حريمكم من الْأُمَم محروساً ودينكم من غَلَبَة الْأَدْيَان مَحْفُوظًا مَا عظّمت فِيكُم الْوُلَاة، وَلَيْسَ تعظيمهم بترك كَلَامهم، وَلَا إجلالهم بالتنحي عَنْهُم وَلَا الْمحبَّة لَهُم بالمحبة لكل مَا يحبونَ، وَلَكِن تعظيمهم تَعْظِيم أديانهم وعقولهم، وإجلالهم إجلال مَنْزِلَتهمْ من الله جلّ وَعز، ومحبتهم محبَّة إصابتهم وحكاية الصَّوَاب عَنْهُم. وَاعْلَمُوا أَنه لَا سَبِيل إِلَى أَن يعظّم الْوَالِي إِلَّا بالإصابة فِي السياسة، وَرَأس إِصَابَة السياسة أَن يفتح الْوَالِي لمن قبله من الرّعية بَابَيْنِ: احدهما، بَاب رقة وَرَحْمَة ورأفة وبذل وتحنن وإلطاف ومواتاة ومواساة وَبشر وتهال وانبساط وانشراح، وَالْآخر، بَاب غلظة وخشونة وتعنت وَشدَّة وإمساك ومباعدة وإقصاء، وَمُخَالفَة وَمنع وقطوب وانقباض ومحقرة إِلَى أَن يبلغ الْقَتْل.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute