وَاعْلَمُوا أَنِّي لم أسم هذَيْن الْبَابَيْنِ بَاب رفق وَبَاب عنف، وَلَكِنِّي سميتهما جَمِيعًا بَابي رفق؛ لِأَن فتح بَاب الْمَكْرُوه مَعَ بَاب السرُور هُوَ أوشك لإغلاقه حَتَّى لَا يبتلى بِهِ أحد. وَاعْلَمُوا أَن فِي الرّعية من الْأَهْوَاء الغالية للرأي، والفجور المستثقل للدّين، والسفلة الحنقة على الْوُجُوه بالنفاسة والحسد مَا لَا بُد مَعَه أَن يقرن بِبَاب الرأفة بَاب الغلظة، وبباب الاستبقاء بَاب الْقَتْل. وَاعْلَمُوا أَن الْوَالِي قد يفْسد بعض الرّعية من حرصه على صَلَاحهَا، أَو قد يغلظ عَلَيْهَا من شدَّة رقته لَهَا، وَقد يقتل مِنْهَا من حرصه على حَيَاتهَا. وَاعْلَمُوا أَن قتالكم الْأَعْدَاء من الْأُمَم قبل قتالكم الْأَدَب من أنفس رعيتكم لَيْسَ بِحِفْظ وَلكنه إِضَاعَة، وَكَيف يُجَاهد الْعَدو بقلوب مُخْتَلفَة وأيد متعادية؟ وَقد علمْتُم أَن الَّذِي بني عَلَيْهِ النَّاس وجبلت عَلَيْهِ الطباع حب الْحَيَاة وبغض الْمَوْت، وَإِن الْحَرْب تبَاعد من الْحَيَاة، وتدني من الْمَوْت، فَلَا دفع وَلَا منع وَلَا صَبر وَلَا محاماة مَعَ هَذَا إِلَّا بِأحد وَجْهَيْن: إِمَّا بنية، وَالنِّيَّة مَا لَا يقدر عَلَيْهِ الْوَالِي عِنْد النَّاس بعد النِّيَّة الَّتِي تكون فِي أول الدولة، وَإِمَّا بِحسن الْأَدَب وإصابة السياسة. وَاعْلَمُوا أَن بَدْء ذهَاب الدولة إِنَّمَا يبْدَأ من قبل إهمال الرّعية بِغَيْر أشغال مَعْرُوفَة وَلَا أَعمال مَعْلُومَة، فَإِذا فَشَا الْفَرَاغ تولّد مِنْهُ النّظر فِي الْأُمُور والفكر فِي الْأُصُول، فَإِذا نظرُوا فِي ذَلِك نظرُوا فِيهِ بطبائع مُخْتَلفَة، فتختلف بهم الْمذَاهب، ويتولد من اخْتِلَاف مذاهبهم تعاديهم وتضاغنهم، وهم فِي ذَلِك مجتمعون فِي اخْتلَافهمْ على بغض الْمُلُوك؛ لِأَن كل صنف مِنْهُم إِنَّمَا يجْرِي إِلَى فجيعة الْملك الَّذِي يملكهُ، وَلَكنهُمْ لَا يَجدونَ سلما إِلَى ذَلِك أوثق من الدّين، وَلَا أَكثر أتباعاً، وأعز امتناعا، وَلَا أَشد على النَّاس صبرا، ثمَّ يتَوَلَّد من تعاديهم أَن الْملك لَا يَسْتَطِيع جمعهم على هوى وَاحِد، فَإِذا انْفَرد ببعضهم فَهُوَ عَدو لبَعض. ثمَّ يتَوَلَّد من تعاديهم وعداوتهم للْملك كثرتهم، فَإِن من شَأْن الْعَامَّة الِاجْتِمَاع على الاستثقال للولاة والنفاسة عَلَيْهِم، لِأَن فِي الرّعية المحروم
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute